محمد بوخطة يرد على مقال الدكتور مهنانة في “انزياحات”
حين تقدس البَهيمِية. وتفكر تحت وطأة الخوف من الموت
لست ضد حرية التعبير بله أن أكون ضد حرية التفكير، غير أن التعبير عندما يكون منطلقاً من منبر رسمي (الدولة ومؤسساتها) فإنه يصبح مقيداً بالقيم ـ ذات الطابع القانوني ـ التي تقيد بها مؤسسة الدولة نفسها حتى ولو لم يكن الممارس مقتنعاً بها، في هذه الحالة عليه أن يتخلى عن موقعه منها ويعبر كما يشاء، أما أن يستغل وسائل الدولة ومنابرها التي هي في الأخير ملكية عموم الشعب كي ينفس عن عُقده وشذوذه، هنا أصبح من الواجب التصدي لتفاهته ووضع في حجمه.
استفزني ما كتب المسمى / الدكتور إسماعيل مهنانة في محلة وزارة الثقافة “إنزياخات ” المنزاحة عن عمق العقل ورقي الذوق في مقاله الموسوم “سوريالية أم موت للواقع” في العدد الأول/أبريل 2020، صفحة 12، لا سيما الفقرة تحت عنوان:
كيف ينعكس كل هذا على رؤيتنا للحياة والموت؟
حيث عبر: “إن هذه الرؤية تتشكل داخل الثقافة، هذه الثقافة ليست ســوى تأويــل وتفســير لوضع الجسد الإنساني داخل محيطه فالجسد الإنساني هو مركز الحياة كله”
فضيلة الدكتور المحترم حين نتحدث عن رؤيتنا للحياة والموت فنحن لا نتحدث عن الثقافة بمفهومها الشائع ولكننا نتحدث عن العقيدة الإنسانية التي يتبلور من خلالها مفهوم الحياة والموت والذي يرتبط أساساً بالخلفية الميتافيزيقية كما تسميها والخلفية الاعتقادية (الدينية) كما أسميها ـ وكما يفهمها المنصفون ـ فما الذي جعلك تنزل عن المصطلح الشائع لتستعمل مصطلح “ثقافة” بدلاً عنه … أُخبرك:
إنني أدرك أنك تدرك أن المراد هو العقيدة الدينية ولكن لعلمك مسبقاً أنه مصطلح حساس يحمل شُحنة مرتبطة بعواطف الناس وانتماءاتهم، وأن إفصاحك عنه سيشوش عليك بلوغ مرادك في إثارة الشبهة حول عقائدهم استعرت مصطلح “ثقافة” لتهون الأمر وتدس السم في لبنك لا عَسَلنا.
ثم قلت: “فالجسد الإنساني هو مركز الحياة كلها … ومنبع كل القيم الأخلاقية والجمالية” حاولتُ أن أستوعب هذه العبارة المادية حتى أتحسس الفرق بيني وبين الكائنات الحية غير العاقلة …
فضيلة الدكتور المحترم إذا كان الجسد الإنساني هو مركز الحياة ـ وأنت هنا قطعاً لا تقصد الحياة المادية فقط لأنك قرنتها بالقيم الأخلاقية فينصرف معناها إلى ما يتجاوز المادية ـ ومنبع القيم الأخلاقية … لا يخفاك أيها العارف أن الجسد موجود مشترك بين كل الكائنات الحية فإذا كان هو مركز الحياة ومنبع الأخلاق فكيف يقنعنا الدكتور المحترم بالفرق بين مثل جسده البديع وهو أرقى خلق الله وبين مثل جسد الخنزير الذي هو خلق من خلق الله … بمثل رؤية الدكتور يستوي الجسدان في الجسدية قطعاً.
ثم عندما تطلق يا دكتور مصطلح “أخلاق” فهو ينصرف أصالة إلى معان قبل التي ذكرت وهي معاني: الصدق والوفاء والمروءة والالتزام والاخلاص والإحسان وحب الأوطان وبذل الخير للناس والاستقامة ونكران الذات … فأين موقع هذه الأخلاق من الجسد يا فضيلة الدكتور وهل يشترك فيها البشر مع القردة والخنازير … بل أين موقع الحب والعشق والكره والبغض في جسدك يا دكتور..
محور الكون هو الانسان وليس الجسد، وسر الانسان وعلة تميُّزه هو العقل وليس الجسد، لذلك لم يستو وجوده بوجود الأحياء دونه وكان مسيطراً عليها بميزة العقل وثمرته التي هي التفكير … فلماذا تريد أن تسوِّينا بالقردة والخنازير أكرمنا وأكرمك الله.
غير أني أتوهم أنك تلمز إلى شيء خفي لم تجرؤ على التصريح به وهو أن تقطع الصلة بين الأرض والسماء وتتنكر للوحي والأديان لأنها تخاطب العقول لا تخاطب الأجساد فالذي علية العقلاء أن الخطاب إنما يُناط بالإنسان من حيث كونه عاقل فإذا أخرت عنه صفة العقل لتقدم صفة الجسد (المادة) قطعت الصلة بين الأرض والسماء، ولكم ولأمثالكم في ذلك سر سيأتي بيانه.
حين تقول: “ولم تعد قيم العفة أكثــر أهمية من مســألة النظافــة التــي قــد تتحــول إلــى قيمــة عليا” فلقد أجهدت عقلي لأفهم مرادك ولم أصل إلى ربط العفة بالنظافة … أما النظافة فهي عند العقلاء الراقين بذوقهم قيمة عليا أبداً قبل أن تعلو عندكم الآن فقط لتلتحقوا بهم ـ في النظرة أقصد لا في النظافة ـ
حين تقول: “وكمــا شــاهدنا تم إلغــاء طقــوس الدفــن الدينية لصالح الدفــن التقنــي دون أن يثيــر ذلــك أي ضجة”
إنك تنطلق هاهنا من نظرتك النمطية للدين التي لا تعبر عن الدين وإنما عن تصورك له ففي الحال يصبح الدفن التقني هو عينه الدفن الديني لأن أولوية الدين حفظ الحياة وفق حقيقة الدين نفسه، لن أخوض معك هاهنا في نصوص دينية وما تفرزه من مقاصد وقواعد فقهية وأصولية تقرر هذه الحقيقة فأمرك أهون من ذلك، لتعلم فقط يا دكتور أنه أينما كانت المصلحة فثمة الدين الحق غير أن مفهوم المصلحة له أصوله الفكرية والفلسفية كما الدينية لا يقرره قُصَّر الفكر وحُمَّال العُقَد، ليصبح ما تتحدث عنه من تخل عن الميتافيزيقية ـ كما تريدها ـ مجرد هراء لا يستحق التعليق، فالدين سلة واحدة لا تتجزأ من حيث الغايات والمقاصد وكل تفاصيلها مرتبطة بتلك الغايات والمقاصد.
الذي التبس عليَّ أنك تتحدث عن الجسد على أنه مركز الحياة لتصفه في الأخير بأنه مدنس أمام المقدس وأنت تقدسه دون المدنس حين تقول: “إن الحــدود بـيـن المقــدس والمدنس تزحزحت لصالــح هــذا الأخيــر” لو كنت مثلك في نظرتي للجسد على أنه مركز الحياة لانسجمت مع نفسي واعتبرت الجسد هو المقدس وكل ما دونه هو المدنس … كيف لا وأنت تقدسه،لن تخونني الشجاعة مثل ما خانتك.
مخ الكلام
الحقيقة التي تترسخ في ذهنك عندما تقرأ لفضيلة الدكتور هو أنه وأمثاله يعانون من: “فوبيا الالتزام” فهم ينطلقون من معاداتهم لكل ما يحمل معنى الالتزام ليس لجرعة الحرية الزائدة في نفوسهم، ولكن لآفة عجزهم عن التحكم في أنفسهم وقيادتها وفق قيم غير الفوضى والبوهيمية التي تفرضها سيطرة أجسادهم كما هي الحياة الحيوانية، ولذلك تجدهم يعادون الأديان ليس من منطلق عقلي، ولكن من حيث كونها تحمل معنى الالتزام، ويدلسون على ضعفهم وعجزهم بما يسمونه قيم الحداثة والحرية.
لقد خاصم كبار فلاسفة الله عبر التاريخ غير أن عقولهم ردتهم إليه رذاً جميلاً، أما هؤلاء الجدد فهم أقل من أن تكون لهم خصومة مع الله ولكن خصومتهم في الحقيقة مع ضعف أنفسهم وهوانهم دونها والذي يتجلى في مظاهر ما يسمونه حداثة وتحرر…
لو قالت الأديان قدسوا شهواتكم، حكِّموا أجسادكم، اجعلوا ذواتكم محور وجودكم، لا يهمكم إن تفسدوا أو تصلحوا، اسرقوا ما تشتهون، مارسوا الجنس كما تريدون، اعبثوا العبوا… لكان الأستاذ وأمثاله أكثر المدافعين عن الأديان المنافحين عن لا حدودها.
وقل في السياسة مثلما تقول في الدين عن أولئك الذين يستحبون الحركة خارج إطار القوانين…
حين تضعف هِمّة الانسان ويتضخم أناه الحيواني لن تجد منه أفضل مما تجد من هؤلاء… انزاحوا