17 يونيو، 2020
الحوار الجزائرية
وطني

تفسير سورة البقرة

تفسير المؤمنين للشيخ أبو جرة سلطاني

وتلك الأمثال نضربها للناس

إن ضرْب الأمثال أسلوب بلاغي في اللغة العربية، لكن القرآن الكريم أعطاه عمقا عقديا وحيوية متحركة مع المنهج نفسه لتقريب معاني الغيب بما هو محسوس وملموس ومعلوم، من عالم الشهادة، يختزل موضوعا كبيرا في جملة مختصرة لها مورد ومضرب لتقريب المعنى البعيد بتشبيه غائب بحاضر، وكثيرا ما تأتي الأمثال القرآنية، في سياقات الحديث عن العقيدة أوالتشريع، لتشرح مفاهيم عالم الغيب لخدمة موضوع الهداية والإيمان والمنهج..ولفت أنظار المعنيين وشدّ أسماعهم إلى شيء في القمة لا يستطيعون رؤيته ولا إدراكه بالحواس، فيجعل الله له “نموذجا مصغرا” ليشرح به المعاني الضخمة، وقد سبق أن شرحنا المثالين اللذين ضربهما الله (جل جلاله) بالنار وضوئها والمطر ورعده وبرقه ليشرح النفسيات المضطربة التي يحيا بها المنافقون، والآن يضرب الله مثلا ليشرح الفرق بين مصدر منهج الله وهدفه والأدوات التي يستخدمها ليعرض بها الهداية إليه.

فمصدر المنهج هو الله (جل جلاله) الذي أوحاه إلى رسله (عليهم السلام)، فعنه يصدر الأمر والنهي، وبفضله ورحمته تتنزل الهداية من السماء. والهدف من إنزال المنهج للناس، هو هدايتهم إلى صراطه المستقيم، ونقلهم نقلة بعيدة، من الحياة الدنيا إلى الآخرة.

والأدوات التي يستخدمها صاحب المنهج للتوضيح، متنوعة بتنوع فهوم الناس وحجوم إدراكهم وسعة فهمهم والإرتباط بالبيئة التي لا تكون فيها الإدارة الشارحة للمنهج فعالة إلاّ إذا كان لها صلة بالحياة اليومية للناس، لذلك نجد كل الأمثال التي ضربها الله (عز وجل) للناس في القرآن الكريم ذات صلة، من نوع ما، بحياة الذين خاطبهم الله بالمنهج، فقد ضرب الأمثلة بالنخيل، والعبيد، والبكم، والقرية الآمنة، والعظام الرمّاء، والشراكة، والبعوضة، والزبد، والغثاء، والجنان، والمطر، والنار، والذباب..الخ، وبيّن (سبحانه) أن هذه الأمثال المضروبة لا يعرف كنهها إلاّ أصحاب النهى “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ” العنكبوت: 43، وشبه نوره بالمشكاة التي فيها مصباح، ولكنه حذّر الناس من أن يضربوا لله الأمثال لأنه (جل جلاله) “ليس كمثله شيء” ولا تُضرب الأمثال عن ذاته لأنه (سبحانه) أعلم بذاته، وهو الذي يُعرفها للناس بشهادة الذات للذات،  “فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” النحل:74 ، فلا توجد ألفاظ تعبّر عن قدرة الله إلاّ ما تكشف عنها آياته هو، ولذلك علّمنا الله كيف نحمده وكيف نثني عليه وكيف نسبّحه وكيف نصلي ونصوم ونحج ونزكي..ونتعامل مع الناس..بل كيف يتحول الحرام إلى حلال، في البيوع مثلا “وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا” البقرة: 752، وكلاهما تجارة وبينهما خيط رفيع يجعل البيع حلالا والربا حراما، هذا حلال وهذا حرام، وفي مسألة النكاح مثلا فالزنا حرام والزواج حلال، والسفاح حرام والنكاح بشروطه الشرعية حلال..والفاصل بينهما اسم الله بشروطها ومقتضياتها وفقهها الشرعي  “فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ” النساء:25 ، ذلك أن الكون خلقه الله، بما فيه ومن فيه، وهو وحده القادر على تنظيم حركته بالتسخير وبالإختيار معا، فماهو  مسخر خاضع لحركة تحكمها أسباب الله التي لا يخرقها إلاّ هو، وما هو مخيًّر (وهما صنفان: الإنس والجن) مسؤول عن حركته التي تحكمها واحدة من ثلاث وضعيات لا يمكن للإنسان ولا للجان أن يخرجوا عنها، وهي:

حركة الإيمان المحكومة بمنهج خالق الكون بمن فيه من الإنس والجن أو حركة الكفر المارق عن المنهج بأشكال كثيرة أعلاها الشرك وأدناها الرياء وبينهما الهوى والشهوة.

أو حركة النفاق المترددة بين المنهجين، فأصحابها يعيشون على هوامش الإيمان ولكنهم ليسوا مؤمنين، لأن رصيد الإيمان في قلوبهم صفر، وهم، في الوقت نفسه يعيشون على هوامش الكفر، وهم كفار حقا بإقرار واضح منهم لا يخفونه “وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا” هذا حالهم في معسكر الإيمان، “وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ” البقرة: 14، وهذا حالهم في معسكر الكفر، “إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءون” البقرة: 14، وكأن انتظام حركة الإنسان بالمنهج أو انفصالها عنه أوتذبذبها فيه تشبه علاقة هذا الإنسان بالحلال (التمسك بالمنهج) والحرام (الكفر به) والحائم حول الحمى الذي يعيش حياته كلها على الشبهات، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كما جاء في الحديث السالف الذكر.

 

من هذه المنطلقات، التي تحددها علاقة كل فريق من الناس بمنهج الله في إدارة شؤون الكون وضبط حركة الحياة، تأتي الأمثلة القرآنية لتوضح ماهو في قمة المنهج وكلياته ومقاصده..تاركة التفاصيل والجزئيات لأهل الذكر وللذين يستنبطون الأحكام التفصيلية من القضايا الكلية باستصحاب المقاصد الكبرى لكليات الدين الخمس بشروط الاجتهاد المعروفة.

 

فما حكاية هذه “البعوضة” التي ضربها الله مثلا، وقال للناس إنه (سبحانه) يضرب الأمثال بما دونها يوم أن كان الناس لا يعرفون حشرة أصغر من البعوضة ليجعل هذا المثل فتنة للذين كفروا يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا؟ وهل المشكلة في البعوضة، أم في نظرة الناس إليها؟ وما الفرق بين من تشير إلى الشمس بأصبعك لتدله على ضيائها وجمالها..فيركز عينيه على طرف أصبعك ولا يرى الشمس، وبين من تقول: إن الله قد خلق البعوضة وخلق حشرات متناهية الدقة والصغر؟ فيقول لك: ماهي هذه الحشرات التي تزعم أنها أقل من البعوضة؟؟ فهل الخلل في السائل هو أم في طريقة عرضك أنت للشمس والبعوض؟، أم أن الخلل في الشمس لأنها بعيدة عنه وإصبعك قريب منه، وفي البعوض الذي يزعج الناس رغم ضالة جرمه؟

هذا هو سرّ ضرب الأمثلة في القرآن الكريم، وهذه هي مشكلة كثير من الناس مع مصدر المنهج وأهدافه وأدوات توضيحه، فالبعوضة ليست هي الشمس ولكن الله ضربها مثلا للناس ليعرفوا ما فوقها، أي ماهو أدق منها، لأن الجرم الصغير فوقيته أصغر منه، والجرم الكبير فوقيته أكبر منه، ولذلك يدعو المؤمن بالقول مثلا: اللهم قوِّ ضعفنا !!  فتقوية الضعف زيادة فيه، وإنما يقول: اللهم أرحم ضعفنا، فقوة الضعيف في ضعفه، وضعف القوي في ضخامته لصعوبة حركته وعجزه عن النفاذ، وما دام ضارب المثل هو الله  العارف بخفايا الكون وبما يصلح أحوال الناس- فالأصل أن ينصاع الناس لتعاليم المنهج دون أن يضيّعوا أوقاتهم في الإستفسار عن ضعف “البعوضة” وقوتها، ولماذا ضربها الله مثلا، وما الحكمة من توظيفها في سياق توضيح المنهج، وهي حشرة صغيرة لا وزن لها ولا قيمة ولا يعرف الناس لها فائدة؟، وماذا فوق البعوض؟؟.

 

إن هذا الأسلوب في التعامل مع منهج الله هو ذريعة للتملص من المنهج، ومشكلة مثيري الجدل ليست البعوضة ولا الفيل ولا الذبابة ولا البقرة..إنما أمراضهم القلبية وعقدهم النفسية، بدليل أن الله تعالى لما أمر بعض هؤلاء الناس (اليهود) أن يذبحوا بقرة  وليس بعوضة- قالوا أتتخذنا هزؤا، وبدليل آخر، أن الله (تعالى) تحدث عن الفيل والجمل والخيل والبغال والحمير..ولم يقصر حديثه عن البعوضة ولكنهم لم يؤمنوا برب الفيلة والجمال، ولا برب السماوات والأرض ورب العرش العظيم..فالمشكلة ليست في المثال المضروب وإنما في السامع للقرآن   إن كان يسمع- والمتلقي للمنهج الذي يحاول أن يصطنع المعارك الفلسفية ليفلت من التكاليف الشرعية، ويتحلل من المسؤوليات ويعيش سائبا همْلا لا يقيد حركته في الحياة أي منهج إلاّ ما يشبع نزواته ويخضع لهواه وشهواته.

 

كان يفترض أن يدرك الناس جميعا أن “صاحب الصنعة” هو الوحيد المخوّل بوضع نظام عملها وكيفيات تشغيلها وطرائق صيانتها، وأنه يستحيل عقلا وتجربة أنَّ “جهة” تصنع و”جهة أخرى” تضطلع بوضع “دليل التشغيل” وقانون الصيانة !! هذا في عالم الصناعات والمخترعات، من الإبرة إلى الصاروخ، كما يقال، لكن في مجال “الصناعة الأرقى” والإنتاج الأعلى والخلق الأسمى، الذين بدونه يفقد هذا الكون حركة الإستخلاف والتمكين: وهو الإنسان، فكيف نهتم بصناعة  مهما كانت راقية- هي في خدمة الإنسان فنضع لها دليل تشغيل وقانون صيانة، ونتواصى بضرورة احترام “تعليمات الصانع” ولا نهتم بدليل تشغيل منهج  “سيد المخلوقات” الذي أرسل الله (جل جلاله) لهدايته الرسل، وأنزل الكتب لتنظيم حياته وضبط حركته والإرتقاء بجانبه الروحي إلى سموّ ما من أجله خلق الإنسان وعلمه البيان، حتى لا يعيش هذا الإنسان مجرّد كتلة طين مركونة إلى أطنان أخرى من طين الأرض التي منها خُلق، أو بصير “ماكينة” مسخّرة للإنتاج لا رسالة لها إلاّ توفير السلع وتقديم الخدمات وإنتاج الثروة..

 

يتبع…

مقالات متشابهة