17 مارس، 2020
الحوار الجزائرية
مساهمات

حقيقة الصيام.. بين مقام العبودية والرّسالة الأخلاقية.

أ: ناصر حمدادوش

 يقول علماء التربية الروحية: ليست كلُّ طاعةٍ سبيلاً إلى مثوبة الله ورضوانه، وليست كلّ معصية سبيلا إلى غضب الله وعقابه، ذلك أنه لكلٍّ من الطاعة والمعصية: شكلٌ ومظهر وسرٌّ وجوهر، والعبرة في سلوكنا التعبدي مع الله عزّ وجل هو التقرب إليه بالحقائق والأسرار وليس بمجرد المظاهر والأشكال، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلّم: “إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ.”، للفرق بين “العبادة” وهي الأعمال الظاهرة من عبادات الجوارح، و”العبودية”، وهي الأحوال الباطنة من عبادات القلوب، والعلاقة بينهما أن: العبادة وعاءٌ للعبودية، ولا قيمة للعبادة إلا بمقدار ما تنطوي عليه من مشاعر العبودية: مشاعر الذلّ والانكسار والخشية الافتقار لله الواحد القهار، فالعبادة شُرِّعت وسيلةً لتحقيق العبودية، قال تعالى: “وما أمِروا إلا ليعبدوا الله..” (العبادة الظاهرة)، “.. مخلصين له الدّين..” (العبودية الباطنة) (البيّنة: 05).

وتقرّر شرعًا أنّ: أعمال القلوب مقدّمة على أعمال الجوارح، وهي الأعظم أجرًا والأشدّ أثرًا، إذ الأعمال الظاهرة لا تُقبل إلا بحركةٍ باطنة، وهي: توجّه القلب إلى الرّبّ سبحانه وتعالى بالنية والإخلاص، فهو جوهرُ العبد وماهيته، وهو محلّ نظر الله تعالى إليه، إذا صلُح صلُح الجسد كلّه وإذا فسُد فسُد الجسد كلُّه..

كما تبيّن أنّه لكلِّ حقٍّ حقيقة، كما جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: “إِنّ لكلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً..”، فللمؤمن حقيقة، كما قال تعالى: “.. أولئك هم المؤمنون حقّا..”(الأنفال: 04)، وللجهاد حقيقة كما قال تعالى: “..وجاهدوا في الله حقَّ جهاده..”(الحج:78)، وللإيمان حقيقة، كما قال صلى الله عليه وسلّم: “..وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ..”. فما هي حقيقة الصيام الذي يريده الله تعالى منّا؟؟

يُروى عن الإمام عليٍّ رضي الله عنه قال: “صيام القلب خيرٌ من صيام اللسان، وصيام اللسان خيرٌ من صيام البطن..”. وهي خلاصةُ مراتب الصيام الحقيقية، وهي ثلاثة:

1/ صيام العامة: وهو صيام الجسد عن حظوظه من المفطرات الحسّية، من شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس..

وهو مرحلة تحريم الحلال والإمساك عنه، لمناجاة ضمائرنا والإحساس بغيرنا، كساحةٍ من ساحات اختبار القلوب للتسليم، كما قال تعالى في الحديث القدسي الجليل: “.. يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، فالصوم لي وأنا أجزي به..”..

2/ صيام الخاصة: وهو صيام النّفس عن حظوظها من شهوات الحواسّ من المفطرات المعنوية، وهي معاصي الجوارح كمعاصي اللسان والسمع والبصر..

وهو مرحلة تحريم الحرام، وهو الأصل والمقصد، كدورةٍ تدريبيةٍ في ساحةٍ من ساحات تدريب القلوب على الإرادة، وقد جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ” أن امرأتين صامتا، وأن رجلاً قال يا رسول الله: إن ههنا امرأتين قد صامتا وإنهما قد كادتا أن تموتا من العطش فأعرض عنه، ثم عاد بالهاجرة وقال: يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال: ادعهما فجاءتا، قال: فجيء بقدحٍ فقال لإحداهما: قِيئي فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً، حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى: قِيئي فقاءت من قيحٍ ودمٍ وصديدٍ ولحمٍ وغيره حتى ملأت القدح، ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس..”.

يتبع

مقالات متشابهة