17 مارس، 2020
الحوار الجزائرية
مساهمات

تجربة جديدة لمحاكم التفتيش الأوروبية في الشواطئ الإسلامية

د. علي الصلابي

شكلت المكائد الأوروبية للنيل من المسلمين والتنكيل بهم وتهجيرهم من الأندلس، بداية موجة صليبية ثانية بعد الموجة الصليبية الأولى التي شنتها على بلاد الشام ومصر (القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين)، فحقد الإسبان والبابوية على المسلمين والرغبة في الانتقام منهم في الأندلس بعد سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492م، جعلهم يؤسسون ما سمي في الأدبيات التاريخية بمحاكم التفتيش التي حاولوا نقل تجربتها من مدن الأندلس إلى شواطئ شمال إفريقيا المسلمة في المراحل اللاحقة. فما هي محاكم التفتيش؟، وهل اكتفت أوروبا بالتنصير والعنف على أراضيها، أم نقلتها إلى ديار المسلمين؟.

  • مشروع محاكم التفتيش

هدفت المملكة الصليبية الإسبانية بزعامة فرديناندو وإيزابيلا، إلى تنصير المسلمين بإشراف السلطات الكنسية، وبأشد وسائل العنف، ولم تكن العهود التي قطعت للمسلمين لتحول دون النزعة الصليبية، التي أسبغت على السياسة الإسبانية الغادرة ثوب الدين والتطرف. ولما رفض المسلمون عقائد النصارى، ودينهم المنحرف، وامتنعوا عنه وكافحوه، اعتبرهم نصارى الإسبان ثوارًا وعمالًا لجهات خارجية في المغرب والقاهرة والقسطنطينية، وبدأ القتل فيهم، وجاهد المسلمون ببسالة في غرناطة واليازين والبشرات، فمُزقوا بلا رأفة ولا شفقة ولا رحمة. وفي (جويلية 1501م)، أصدر الملكان الكاثوليكيان أمراً خلاصته: «إنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة، فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال».

  • ماذا فعلت محاكم التفتيش بمسلمي الأندلس المورسكيون؟

هاجرت جموع المسلمين إلى شواطئ شمال إفريقيا “بلاد المغاربة” ناجية بدينها، ومن بقي من المسلمين أخفى إسلامه وأظهر تنصره، فبدأت محاكم التفتيش نشاطها الوحشي المروع، فعند التبليغ عن مسلم أنه يخفي إسلامه؛ يزج به في السجن، وكانت السجون مظلمة رهيبة، تغص بالحشرات والجرذان، يُقيد فيها المتهمون بالأغلال بعد مصادرة أموالهم، لتدفع نفقات سجنهم.

ومن أنواع التعذيب: إملاء البطن بالماء حتى الاختناق، وربط يدي المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل فوق راحته وبطنه ورفعه وخفضه معلقاً، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه، والأسياخ المحمية، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل وفسخ الفك، ولا يوقف التعذيب إلا إذا رأى الطبيب حياة المتهم في خطر، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جف دمه.

وقرار المحكمة لا يتم إلا عند التنفيذ في ساحة البلدة، وهو إما سجن مؤبد، أو مصادرة أموال وتهجير، أو إعدام حرقاً، وهو الحكم الغالب عند الأحبار الذين يشهدون مع الملكين الكاثوليكيين حفلات الإحراق.

ومما يذكر: أن هناك عذاباً اختص به النساء، وهو تعرية المرأة إلا ما يستر عورتها، وكانوا يضعون المرأة في مقبرة مهجورة ويجلسونها على قبر من القبور، ويضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها، وهي على هذه الحالة السيئة، ولا يمكنها الحراك، وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية، ويرخون شعرها فيجللها وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنية لا سيما إذا ما أرخى الليل سدوله، وتترك المسكينة على هذه الحال إلى أن تجن أو تموت جوعًا ورعبًا.

قام النصارى في أوروبا ولا سيما في الأندلس بعد إخراج المسلمين منها، على إجبار المسلمين لتغيير دينهم، حتى صارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، إلا من يقولها خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين، والذين لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل غزيرة، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنازيروالميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم، ولا على نهيهم، ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب، فيا لها من فجيعة ما أمرَّها!، ومصيبة ما أعظمها!، وطامَّة ما أكبرها!.

 

  • دستورو وقوانين محاكم التفتيش التنصيرية

كانت محاكم التفتيش والتحقيق مضرب المثل في الظلم والقهر والتعذيب، وكانت تلك المحاكم والدواوين تلاحق المسلمين حتى تظفر بهم بأساليب بشعة تقشعر لها القلوب والأبدان، فإذا علم أن رجلاً اغتسل يوم الجمعة يصدر في حقه حكمٌ بالموت، وإذا وجدوا رجلاً لابساً للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام. لقد تابع النصارى الصليبيون المسلمين، حتى إنهم كانوا يكشفون عورة من يشكّون أنه مسلم، فإذا وجدوه مختوناً، أو كان أحد عائلته كذلك، فليعلم أن الموت نهايته هو وأسرته.

وكان دستور محاكم التفتيش في ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم ويُستخرج رفاتهم لتحرق في موكب (الأوتودافي)، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده.

وكان العرش يعلم بهذه الآثام المثيرة ولا يستطيع دفعاً لها، ولأنه كان يرى فيها في الوقت نفسه أصلح أداة لتنفيذ سياسته في إبادة الموريسكيين الذين ظلوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت إسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم وترى فيهم دائماً منافقين مارقين.

وإليك ما يقوله في ذلك مؤرخ إسباني كتب قريباً من ذلك العصر، وأدرك المورسيكيين، وعاش بينهم حيناً في غرناطة: «وكانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد، فإذا ذهبوا إلى القداس في أيام الآحاد فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام، وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف، وفي يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة في منازلهم، وفي أيام الآحاد يحتجبون ويعملون، وإذا عُمِّد أطفالهم عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار، ويسمون أولادهم بأسماء عربية، وفي حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقي البركة، تنزع ثيابها النصرانية وترتدي الثياب العربية، ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية».

وقد وصلت إلى المؤرخين وثيقة مهمة تلقي ضوءًا أكبر على أحوال المورسيكيين في ظل التنصير وتعلقهم بدينهم القديم، كيف كانوا يحتالون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفيةً، ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التي يمكن أن تبرر مسلكهم وتشفع لهم لدى ربهم.

  • معاملة محاكم التفتيش من أكرهوا على النصرانية

نقل مؤرخ ديوان التفتيش الإسباني (الدون روني) إلى المؤرخين وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تضمنت طائفة من القواعد والأصول، التي رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها المسلمين المتنصرين بتهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد في تلك الوثيقة الغريبة.

يعتبر الموريسكي ـ وهو المسلم الذي أكره على الدخول في النصرانية، أو العربي المتنصر ـ قد عاد إلى الإسلام إذا امتدح دين محمد، أو قال إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلا رسولاً، أو أن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أمه، ويجب على كل نصراني أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا كان قد رأى أو سمع بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم في يوم الجمعة وهو يعتقد أن ذلك مباحا، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدي ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلاً باسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التي لم تذبح أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده، أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته في اتباعه هذه العادة أو يقول: إنه يجب ألا يعتقد إلا بالله وبرسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة بأن يوجه وجهه نحو الشرق ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أويتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغاني العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب في أيديهن أو شعورهن، أو يتبع قواعد محمد الخمس، أو يلمس بيديه على رؤوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم في أثواب جديدة، أو يدفنهم في أرض بكر، أو يغطي قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة، منعتاً إياه بالنبي ورسول الله، أو يقول: إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول إنه لم يُنصْر إيماناً بالدين المقدس، أو أن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله، لأنهم ماتوا مسلمين.

استمرت محاكم التفتيش الظالمة، وأصبح لهذا العمل الفظيع والاستئصالي تلاميذ في البلاد العربية والإسلامية، يمارسون القهر والظلم والجور بكل أنواعه على أبناء المسلمين، الذين يطالبون بإعادة نظام الحكم الإسلامي في كافة حياتهم، إنها حلبة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والعدل والظلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فبعد قضاء الصليبيين (زعماء الموجة الثانية للصليبية والتنصير) على الوجود الإسلامي في أوروبا، بدؤوا بشن غاراتهم الوحشية الحاقدة بهدف السيطرة على شواطئ المسلمين وأراضيهم، وبحجة الانتقام من الأندلسيين الفارين إلى شمال إفريقيا. وبدأت مرحلة جديدة رافقت ما أسموه حركة الكشوف الجغرافية والاستعمار الجديد الذي بدأته إسبانيا بحملاتها المنظمة على الجزائر وتونس وليبيا والمغرب الأقصى وجزرها، لتنقل فرنسا بعد ذلك تجربة محاكم التفتيش إلى الأراضي الجزائرية؛ بهدف الانتقام والتغريب وتغيير عقيدة وفكر شعب الجزائر العربي والمسلم، والقضاء على تاريخه وطمس هويته وتاريخه العظيم.

مقالات متشابهة