مضامين التعديل الدستوري الجزائري المرتقب بين “مقتضيات التأسيس وموجبات الصياغة“
بقلم: الدكتور يعيش تمام شوقي
أستاذ محاضر تخصص قانون دستوري – جامعة بسكرة
لا مراء في القول بأن مضامين وغايات أي تعديل دستوري ينبغي أن تتجه دائما نحو ضمان تجسيد التعايش السلمي بين كفتي السلطة والحرية، أو كما يعبر عنه بالتوازن بين البعدين السياسي والاجتماعي للوثيقة الدستورية، وهو المعنى الذي من المنتظر أن نلمسه في التعديل الدستوري القادم، والذي أبان من خلاله رئيس الجمهورية عن نيته في تعزيز المكتسبات الدستورية وتصويب ما أفرزته الممارسات السابقة، فضلا على تأطير المضامين التي لم تلق عناية دستورية من قبل، والارتقاء بها إلى مصاف القواعد الدستورية حتى تفرض نفسها على المؤسس الدستوري، فلا يستطيع إلغاءها ولا تعديلها، إلا باتباع مقتضيات خاصة، وهو ما يحصل الإجماع الفقهي الدستوري على وصفه بجمود الدستور.
إن إسقاط هذا الوصف على واقع التعديل الدستوري الجزائري المرتقب يجعلنا نقر من غير مجازفة أو مبالغة أن آليات تعديل الدستور الجزائري لطالما حافظت على نسقها من حيث الاكتفاء بضوابط تعديل معقولة في شدتها دون تطرف، حيث تكون إجراءات تعديل النصوص الدستورية هنا أكثر صرامة من إجراءات تعديل سائر القوانين، أما من حيث نطاق التعديل، فهو مقيد فقط بنصوص الحضر الموضوعي الدائم، والتي تمنع المساس بمبادئ المجتمع الجزائري والدولة، وفق ما تنص عليه المادة 212 من التعديل الدستوري الحالي.
وما من شك أن التعديل الدستوري القادم سيأخذ بعين الاعتبار توسيع مضامين القواعد الدستورية لتستوعب الكثير من المسائل التي تدور حول فلك المحاور الواردة في رسالة رئيس الجمهورية بمناسبة إطلاق مبادرة تعديل الدستور، مع أن هناك إمكانية للتوسع من جانب اللجنة المكلفة بتقديم مقترحات التعديل خارج تلك المحاور وفق ما جاء في رسالة الرئيس نفسها، مما يؤكد أن محتوى التعديل الدستوري سيسفر تعديلا جوهريا يمس لا محالة بنظام التوازنات الأساسية لعمل السلطات والمؤسسات الدستورية.
غير أن ما تجب الإشارة إليه هو أن دور لجنة الصياغة المكلفة بتحرير مشروع تعديل الدستور لا يرقى إلى مستوى التأسيس النهائي لقواعد دستورية، فهي ليست سلطة مؤسسة أو جمعية تأسيسية، وبيان ذلك كله أن في أدبيات المراجعة الدستورية من يتكفل بصياغة بنود الدستور لا يمكن أن تكون له أكثر من مجرد مكنة لتقديم اقتراح، وفي حالة عمل لجنة الصياغة، فلا يمكن أن يحوز القوة والقيمة الدستورية ما لم يتم إثرائه بفتح باب المشاورات أمام مختلف الفاعلين والأكاديميين والمختصين من خلال تلقي آرائهم وإسهاماتهم عبر منابر وقنوات علمية جدية وهادفة، على أن يستكمل مشروع التعديل الدستوري باقي الضوابط الدستورية الأخرى، وهذا الأمر يكشف بجلاء أن إلحاق وصف العملية التأسيسية للقواعد الدستورية في إطار التعديل الدستوري القادم يأخذ منحى خاص، ففي غياب جمعية تأسيسية حقيقة منتخبة بالمعنى المستقر والمتفق عليه، يصبح التأسيس لمضامين نصوص الوثيقة الدستورية في هذه الحالة نتاج اكتمال ثلاث حلقات رئيسة ومتسلسلة، هي: عملية المبادرة باقتراح التعديل الدستوري والتي تعتبر لجنة الصياغة جزء لا يتجزأ منها، يليه عملية إقرار التعديل الدستوري من طرف البرلمان، وأخيرا عملية إنفاذ وإصدار نص التعديل الدستوري بناء على نتيجة الاستفتاء الذي يعتبر بمثابة شهادة ميلاد أو وفاة للتعديل الدستوري، وهو مايؤكد مرة أخرى التلازم الحتمي بين السلطة والسيادة التي هي ملك للشعب وحده، حسب ما تنص عليه المادة 7 من التعديل الدستوري الحالي. ولما كانت السلطة التأسيسية ملك للشعب، ولما كانت هاته السلطة ترجمة لسيادة الشعب المطلقة، فإن الشعب يمارس سيادته حسب منطوق المادة 8 تارة عن طريق المؤسسات المنتخبة التي يختارها، وتارة أخرى عن طريق الاستفتاء، وهو ما يدل بوضوح على أن السيادة الشعبية ترتسم بشكل واضح في جميع محطات التعديل الدستوري، بدءا بالمبادرة الرئاسية بالتعديل الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية التي ساهمت في وصول الرئيس لسدة الحكم، مرورا بالمصادقة البرلمانية التي هي تأكيد للديمقراطية التمثيلية، وانتهاء بالاستفتاء الدستوري الذي هو تعبير صريح لممارسة الديمقراطية المباشرة، وتبعا له يسوغ لنا القول إن الشعب هو المالك الأصلي والوحيد للوظيفة التأسيسية.
نتمسك بهذا الطرح في الوقت الذي لا يجب أن يغيب عن ذهننا أن مصطلح “الوظيفة التأسيسية” لم يتسن استخدامه في القاموس الدستوري الجزائري بشكل صريح ومستقل إلا مرة واحدة فقط بموجب دستور 1976، وتحديدا في الفصل السادس منه، ولو أن استخدام مصطلح الوظيفة التأسيسية هنا كان بدلالة الالتزام بنفس ضوابط التعديل الدستوري الحالي، وفق ما سبق بيانه.
ومع ذلك يبقى دور لجنة صياغة مشروع التعديل الدستوري محتفظا بقيمته وأهميته من حيث كونه نقطة بداية مسار تعديل الدستور الجزائري، كما يعتبر المحرك لباقي مقتضيات إجراء التعديل الدستوري. وفي هذا السياق، ارتأينا تسليط النظر على أهم المسائل التي من المتصور والمتوقع أن تحظى بمراجعة، واقتراح ما أمكن اقتراحه لعلها تسعف عند صياغة البدائل الدستورية، على أن ما سندلي به من مقترحات يتعلق أساسا بمحور السلطات العامة والعلاقة بينها بوصفه المحور الحساس الذي يتحكم في جوهرية وعمق التعديل.
ففي مجال مراجعة المركز الدستوري لرئيس الجمهورية، يمكن القول إن استمرار اتساع المجال التنظيمي العائد لرئيس الجمهورية عن طريق إصداره للمراسيم الرئاسية أدى إلى الإخلال بمعادلة علاقته بالبرلمان في توزيع الاختصاص التشريعي، حيث نجم عنه سلب البرلمان لاختصاصاته الأصلية، ورهن دوره بمجالات حصرية في التشريع لا يمكن محاكاتها بما يملكه رئيس الجمهورية زيادة على الاختصاص التنظيمي من استئثاره بسلطة التشريع بأوامر، والتي بدل أن تحافظ على مكانتها كتفويض تشريعي واستثنائي، دلت الممارسة الدستورية الجزائرية أنها ساهمت في تقوية مكانة رئيس الجمهورية لينقلب إلى مشرع حقيقي بالمدلول المادي للتشريع، ولا شك أن كل هذا يقوي الأطروحات المتمسكة بتغول السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية في الجزائر ردحا من الزمن.
وحتى إذا لم نكن ممن يطالب بتقليص مجال السلطة التنظيمية لرئيس الجمهورية، لكننا متمسكون في المقابل بتوسيع مجالات تدخل البرلمان في التشريع حتى لا تترك الكثير من المجالات الحيوية والمهمة لرئيس الجمهورية، على غرار مجال الصفقات العمومية، فهذا ما من شأنه أن يقلص ضمنيا من إمكانية تمدد السلطة التنظيمية، وبالتالي تضييق نظرية التفوق الرئاسي، مع أننا لسنا ممن ينتصر لفكرة أن النظام الجزائري هو رئاسي، أو رئاسوي على حد قول بعضهم، والسبب في ذلك أن النظام الرئاسي في مدلوله الصحيح يكشف عن مكانة واستقلالية حقيقية للسلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية، كونه يقوم على شدة الفصل العضوي والوظيفي بين السلطتين، هذا المعنى نجده مكرسا بوضوح في النظام الرئاسي الأمريكي، بل أن المدقق في عمق النظام الأمريكي يمكنه أن يلحظ أن الكونغرس، والذي يمثل السلطة التشريعية يعتبر أقوى مؤسسة في النظام الأمريكي.
إن كل محاولات تكييف النظام السياسي الجزائري والبحث عن موقعه بين الأنظمة الكبرى في العالم لا تعدو أن تكون جميعها تشويها وتحويرا، إما للنظام الرئاسي أو للنظام البرلماني، رغم أن الأشكال الذي يبقى مطروحا ليس في تحديد طبيعة النظام السياسي والمفاضلة بين هذا وذاك، بل يكمن في إيجاد ذلك التناغم الضروري في العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية حتى لا تتغول إحداهما على الأخرى، أي فصل يحترم حدود صلاحيات كل سلطة، وفي الوقت نفسه يضمن التعاون والتوازن بينهما مثلما تصوره الفقيه مونتسكيو.
إن التسليم بهكذا اقتراح من شأنه أن يقرب النظام السياسي الجزائري من النظام البرلماني حتى لا نجزم أنه نظام برلماني صرف، هذا متى روعي بطبيعة الحال العودة إلى ثنائية السلطة التنفيذية، والذي ينبني على تقاسم قوى تسيير دواليب السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
نتمسك بمبدأ ثنائية السلطة التنفيذية لأنه أثبت جدواه في النظام الجزائري لفترة معتبرة قبل أن يتجه النظام السابق إلى إسقاطه واستبداله غير المبرر بأحادية السلطة التنفيذية ممانتج عنه تركيز جميع مظاهر السلطة بيد رئيس الجمهورية، وغدا الفاعل الوحيد دون منافس داخل حلقة النظام السياسي الجزائري، رغم أن هذا الوضع يخالف الفطرة الدستورية، والتي تقتضي أن يظل رئيس الجمهورية في الأنظمة المعاصرة محتفظا بمكانته الدستورية والتشريفية بما يليق بوصفه رئيسا يمارس السلطة السامية، لا أن يتحول إلى سلطة إدارية مباشرة تسلب الصلاحيات من الجهات التي تملك أساسا حق مباشرتها.
وإزاء تعزيز الدور التشريعي للبرلمان ورفع حالة الجمود التي طبعته رغم حزمة التعديلات الدستورية التي مسته، لكنها لم تركز على مراجعة النصوص المتعلقة بتفعيل مبادرته بالتشريع، وظلت حكرا بمبادرة السلطة التنفيذية، ومن هنا نقترح أن يتم تحديد قائمة حصرية بالنصوص التي تكون محلا للمبادرة بالتشريع من جانب السلطة التنفيذية (الوزير الأول)، وما خرج عن هاته القائمة الحصرية يدخل ضمن المجال الواسع للبرلمان الذيلا يملك من أمره إلا الممارسة الحتمية لهذا الاختصاص، وهو ما من شأنه أن يقلل في نظرنا مرة أخرى من التفوق التشريعي للسلطة التنفيذية، وفي الوقت نفسه يضمن تفعيل مسألة المبادرة التشريعية للبرلمان بعدما أبانت الممارسة الدستورية أنها ظلت حبيسة النصوص الدستورية.
وبخصوص معايير استقلالية السلطة القضائية من الناحيتين العضوية والوظيفية، يمكن القول أنها أضحت هاجسا ومشكلا يؤرق القضاة مثلما كشفت عنه ممارسات النظام السابق متشبثا بما كان يمنحه له الدستور، أو بالأحرى ما منحه النظام السابق آنذاك، لنفسه بموجب الدستور من إلحاق السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية، حتى غدت السلطة القضائية مرادفة في معناها للسلطة الإدارية عوضا عن المؤسسة الدستورية التي تتضمن معنى الاستقلالية.
إن أولى الخطوات في سبيل تحرير مكونات السلطة القضائية من قيد التبعية للسلطة التنفيذية تبدأ من مراجعة نظام القضاة ومركزهم الوظيفي والتأديبي الذي يخضع حاليا للمجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه رئيس الجمهورية بصورة أصلية شرفية، ووزير العدل بصورةفعلية نيابية، إذ يتعين إخضاعه لرئاسة قاضي يتم اختياره عن طريق الانتخاب من بين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، ولا بأس أن يتم إناطة رئاسته بالنيابة لرئيس المحكمة العليا.
ومن المسائل الأخرى التي نرى أنها تعزز الشعور لدى القاضي باستقلاليته في آداء مهمته، والتي يتعين أن تحظى بتأطير دستوري صريح، مسألة النص على مبدأ عدم جواز عزل القاضي بشكل تعسفي، فالملاحظ أنه رغم أهميته إلا أنه غاب عن اهتمامات الدساتير والتعديلات الدستورية التي عرفتها الجزائر.