مليكة بن دودة وزيرة للثقافة
عين رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون أمسية الخميس، مليكة بن دودة وزيرة للثقافة في الحكومة الجديدة.
وكانت الوزيرة الجديدة تشغل منصب أستاذة فلسفة في جامعة الجزائر، كما تنتمي بن دودة إلى شبكة النساء الفلاسفة التابعة لمنظمة اليونيسكو العالمية.
كتابات بن دودة الفلسفية:
وكذا لمليكة بن دودة أعمال منشورة، من بينها “فلسفة السياسة عند حنّة آرندت” وهي عبارة عن دراسة نشرت عن دار”منشورات الاختلاف” بالجزائر شراكة مع دار “الأمان” بليبيا، و دار “منشورات الضفاف” بسعودية و الرياض.
تأتي هذه الدراسة التي تلتمس الباحثة من خلالها توضيح نقطة ترى أنها مناسبة لفهم موقف آرندت من الفلسفة وموقعها فيها؛ وفي هذا الإطار تسعى من خلال الدراسة إلى فهم ما إذا كان هذا الذي يصدر عن فكر آرندت هو حقاً نظرية سياسية، كما حاولت آرندت أن تقنع الجميع بها، أم أنها تضع قواعد لفلسفة سياسية جديدة؟
وإلى هذا، فإن طموح بن دودة من خلال هذا المبحث هو “الفهم” وذلك على مستويين: فهم آرندت المفكرة السياسية، وفهم آرندت الإنسانية التي غيّرت حياتها الكثير من فكرها؛ بل شاركت الحياة والأحداث في بلورة مسار فكرها من خلال حصول جملة من التوترات والقطائع، وهذه مسألة أساسية من وجهة نظر تصور آرندت للفكر نفسه.
إن لفكر آرندت مخارج هي تسريحات للتفكير من حيث الخروج عن السنن الفلسفية الجامعية والفكرية في آن، وإن لفكرها أيضاً مذاهب هي مسالك وسبل تفكير تتوخّى تحريراً للتفكير الفلسفي في اشباعاته المتراكمة، دفعاً به إلى مجابهة العالم والأحداث والأحوال.
اعمال مليكة بن دودة المتفرقة:
“من أنا؟ من أنا بعد منفاك فيّ؟ تقول الغريبة؟ من أنا بعد منفاك في جسدي؟” (محمود درويش)
عرفت مبادرة مجموعة من الصحافيين لتحويل جسر تيليملي الموجود بضاحية العاصمة الجزائرية جسراً للحبّ، تجاوباً كبيراً من العشّاق الذين زيّنوا الجسر بـ”أقفال الحب”، تماماً كما يحدث على مجموعة من الجسور عبر العالم، أشهرها “جسر الفنون” في باريس. غير أن هذه المبادرة سرعان ما فقدت رومنطيقيتها عندما وصف أحد شيوخ حركة ما يسمّى “صحوة أبناء مساجد الجزائر” هذه المبادرة بأنها “لعنة”. وقد تبنّى محاولات تكسير الأقفال ومنع العشاق من صعود الجسر. أثار الانتباه أكثر، أنّ مجموعات مهمة من الاعلاميين والمثقفين عارضت هذه المبادرة الأولى من نوعها في الجزائر. لنفهم أنّ أسباب الرفض ليست دينية فقط، بل نابعة من المجتمع ككل أو من أعماق المجتمع المحافظ، ولو أن يد العناصر المسمّاة سلفية هي غالباً ما تكون المبادِرة إلى التعبير عن هذا الرفض.
ما الذي يخيف المجتمع؟
لماذا أثارت ظاهرة تحويل فضاء عُرِف سابقاً بجسر المنتحرين جسراً للعشّاق، حفيظة المجتمع المحافظ؟ ما الذي يُخيف المجتمع المحافظ في هذه الظاهرة؟
الحبّ هو لقاء المصادفة أو هو الإيمان بأنّ المصادفة هي التي تخبئ لنا ما لا نعرف وتجعلنا نتورط فيه رغماً عنا، شئنا أم أبينا. الحبّ هو الاعتقاد بأنّ مشاعرنا ستورطنا مصادفةً مع شخص لا يُشبهنا بالضرورة، لم يكن هو الأقرب ولم يكن هو المترقب. شخص لم يكن هو الممكن، وفي كثير من الأحيان كان هو البعيد، بل والأبعد. بين عشية وضحاها، بين نبضة قلب وأخرى، يصبح ذاك البعيد هو الأحلى وهو الأغلى. عبثية الحبّ تحدث في لحظة انعطاف صادم من دون أن ينتبه العاشقان أو يشعر أحدهما بشيء مقبل من العدم، يخلق الفراغ من حولهما ويتجلى هو متربّعاً على المكان كلّه، من دون أن يترك مساحة ممكنة لأيّ طرف آخر. بهذا يصبح الحبّ هو معنى الوجود، بل يتحوّل وجوداً في ذاته في أرقى تجليات القدر وأغربها.
“حقيقة” الحبّ
فإذا كان الحبّ يخلق تلك الثقة العمياء التي تجعلنا نهيم وراءه من دون حجة ومن دون أن نتمكن من أن نفسّر ونفهم، ما الذي يحدث، وما الذي يمكن أن يحدث، فذلك لأنه يحمل حقيقته التي يستقل بها عن العاشقين أنفسهم. فللحبّ وجوده، وللحب حقيقته، التي يستقل بها عن كل الحقائق وكل الأحكام المسبقة والأحكام المعقلنة كذلك. هذا ما يخلق على المستوى الاجتماعي تجاوزاً للمعايير والأسس الاجتماعية والعرفية والتقاليد التي يبنى عليها كيان الفرد في كل مجتمع. ما يحدث اجتماعيا في تجربة الحب، هو أن تجربة الاختلاف تفرض نفسها على شخصية الفرد وهويته. فبدل ان يحبّ الآخر الذي هو من طبقته الاجتماعية نفسها، ومن بلدته ولغته أو لهجته، وهو ما يكون سهلاً اجتماعياً، ستختار له المصادفة أن يحبّ المختلف. فلفظة السقوط الموجودة في العبارة الفرنسية tomber amoureux تعبّر عن ذلك الزلزال الذي يحدث لهوية العاشق وهي تنهار في بدايات الحبّ، فلا يعرف متى تبدأ “أناه” التي بدأت تتماهى في “أنا” الآخر. هو الحبّ، لقاء الغريب بالغريبة، اللقاء الذي يخلط أوراق حياة العاشق ويجعله لا يتحكم في شيء بل، ولا يفهم شيئاً. يطرح السؤال: لماذا علينا أن نلتقي بكل هذا الاندهاش ونتعامل مع كل هذه المفاجآت ونحن نعيش تجربة السقوط الجميل هذه؟
لأنّ الحبّ تجربة اختلاف بامتياز، بكل ما يحمله فكرُ الاختلاف من تجاوز لـ”النفس” le même وانفتاح لحدود الهويّة على جدلية الحضور والغياب، فالأنا تصطدم بحقيقتين في اللحظة نفسها: الآخر مختلف جداً وبعيد جداً، مع ذلك هو مرتبط بالأنا وينتشر فيها إلى حدّ التماهي. الحبّ تجربة اختلاف بامتياز، لأنه يزعزع مركزية الأنا ويحولها في كثير من الأحيان إلى هامش. فالأنا لا تحضر إلاّ لتغيب في الآخر، لأنها تعتمد في حضورها وتحديد هويتها على اختلافات تحرك مركزيتها. فسؤال “من أنا؟” الذي يطرحه العاشق الغريب على نفسه في قصيدة ليل يفيض من الجسد لمحمود درويش، هو سؤال حقيقي وعميق يعبّر عن الشرخ الذي يُحدثه الحبّ في كيان كان يبدو مكتملا قبل الحبّ، كيان شعر باكتماله وسمّى نفسه: الهوية. في تجربة الحبّ تكتشف الذات العاشقة، أنها تواصل وجودها في الآخر الذي تُحبّ. وأنها من دون هذا الآخر ستكون حتماً في النقصان. وهي التجربة التي تتكرر في العشق الصوفي حيث نفهم أكثر عبارة الحلاج “لا يحبّ، حتى يقول لمن يحبّ يا أنا”.
إذا اتفقنا أنّ العاشق يحمل اقتناعاً خاصّاً وقوياً، اقتناعاً شخصياً جدا مفاده أنه في النقصان دون الآخر، يكون هذا الاقتناع هو المعنى الفلسفي لمفهوم “الدوغمة” dogma القديم. اعتقاد راسخ وقوي يؤمن أنه، حتى وإن لم يستطع أن يقوله ويتقاسمه مع الآخرين حيث تخلق هذه الحقيقة عزلته وسكوتاً، تماما كما يعيش الناسك تعبّده وتوّحده ويعيش الفيلسوف في عزلة حقيقته العالمية. فحال العاشق في غربته ووحدته وصمته تشبه كثيراً حال الفيلسوف في ابتعاده عن الناس لاكتشافه أنه لا يستطيع مقاسمتهم حقيقته. فلا نتعجب عندما يشعر المحبّ بأنه شخص غير عادي حيث ينتابه الاحساس بأنه يعيش تجربة خاصّة وفريدة وقوية ومتعالية وبأنه أسمى من الجميع وأكبر من كل صغائر الحياة، فقط لأنه يُحبّ. تُظهر مثالية الحبّ هذه، عظمة العشاق، مع أنهم في كثير من الأحيان أشخاص بسيطون وعاديون جداّ. من هنا أيضا تظهر الحاجة إلى التعبير لدى العاشق. فقد يحفر اسم الحبيب على جذع رمّانة في حدائق بابل، أو يرمي بقطعة نقود في نهر الخلود، أو يعلّق قفلاً على جسر جزائري، كما حدث أخيراً على جسر تيلملي. ما يريد العاشق إظهاره من هذه الرمزية، أنه يعيش تجربة التميّز، وأنه بفضل هذا التميّز أصبح شخصا مختلفاً ومهماً. ليس هذا فحسب، بل وبفضل تلك الفكرة الدوغمائية، القوية، التي بدأت تسيطر عليه، أصبح كذلك شخصاً مثالياً. المثالية التي تعني أن فكرة الحبّ أصبحت هي الفكرة الأهمّ والأصدق في حياته.
هي الفكرة التي طرحها المفكر ألان باديو في كتابه “ثناء على الحب”: عالميّة الحب التي تتحقق بفضل تجربة الاختلاف والتي يصفها درويش من خلال لقاء الغريبَين على طريق لا يفضي إلى هدف. فمَن هما قيس وليلى؟ ما قيمتهما، وهما شخصان عاديّان جداً عندما كان كلٌّ منهما بمفرده، يعيش حياته البسيطة، قبل أن يلتقي بالآخر ويحبّه؟ أيّ حقيقة متعالية يمكن ان يبلغها روميو أو جولييت وهما مراهقان لا يفقهان في تجارب الحياة شيئاً؟ هذه الشخصيات، على بساطتها وسطحيتها في أحيان كثيرة، جعلها الحبّ بعبثيته المفاجئة ومصادفته المؤلمة وبسقوطه الموجع، تصير أهمّ وأعمق مما أراد لها فكرها المتواضع. فإذا تعوّدنا على أن تكون الحقيقة المثالية من شأن المفكّرين والمنظّرين للمفاهيم والنظريات الكونية، فإنّ الحبّ – لأنه يقلب نواميس المجتمع وأعرافه ويمارس مخاطرة ركوب المسالك التي لا تؤدي إلى أهداف واضحة ومعلومة مسبقا،ً ويهزّ بحقيقته التي تفاجئ ما هو كائن – يجعلنا نقول إنّ هناك شيئاً كونياً، شمولياً، عالمياً، في كلّ قصص الحبّ، بل وفي فكرة الحبّ نفسها. فالحبّ عندما يحاول أن يبرز مثاليته في مجتمعات مسيّجة بدوغمائياتها، أي لديها مثاليتها التي تختلف كلياً عن مثالية الحبّ، لا بدّ أن يواجه الكثير من الرفض. وعلى العاشق أن يقبل أن يحبّ بصمت، ويفرح بصمت، ويتألم بصمت. وإذا أعلن شيئاً من مكنوناته، فسوف يُلعَن كما تُلعَن الحقائق أمام كل الدوغمائيات. فهل الصراع بين الحبّ والمجتمعات المحافظة هو صراع قيم، أي صراعٌ بين اعتقادات ودوغمائيات في ما بينها؟
كل الخطابات العشقية، هي خطابات ذاتية ولا تمتّ إلى العقلانية إلاّ من حيث فرض واقعيتها علينا. واقعياً، يكون الحبّ مرضاً وسحراً وهياماً وانفصالاً عن الواقع. لذا، يتعارض مع متطلبات المجتمع المحافظ الذي ينتظر الواقعية ويطالب أفراده باحترام كلّي للشكل الاجتماعي، حتى لو كان هذا الشكل يتعارض مع الدين نفسه. فالرسول تزوّج من زوجة ابنه زيد بن حارثة. لكننا لا نرى هذا جائزاً ولا مقبولا في المجتمعات العربية المحافظة. فالمسألة ليست دينية بقدر ما هي مرتبطة بالقيم الاجتماعية، حتى لو كانت هذه القيم في كثير من الأحيان تحاول تبرير وجودها من خلال المرور عبر المسالك الدينية.
على جسر العشّاق
لقد أثار تعليق الأقفال حفيظة شريحة مهمة من المجتمع الجزائري مع أنّ أسماء العشاق محفورة في كل الحدائق العمومية بالجزائر العريضة، والقلوب الحمر موجودة على صخور الهضاب، وفي الصحراء، وحتى إذا غطسنا إلى أعماق البحر فسنجد حرفين لعاشقين مرّ أحدهما من هنا. فما هي الحقيقة التي تجعل من التعبير عن رمزية الحب من خلال تزيين الجسر بقفل يمثل تهديداً للمجتمع المحافظ؟
يمكن ان تُختصر المسألة في نقطتين رئيسيتين: الاولى هي الخوف من تجربة الاختلاف، التي تتسبب بالانعزال. فالخوف ليس من مسألة الحبّ في حد ذاتها، بل في تلك المثالية التي يفرضها الحبّ على الفرد والتي تجعله فرداً منعزلاً، مختلفاً، متميزاً، أي يفكر وحده من دون الجماعة. وتريد المجتمعات المحافِظة أن تبقي أفرادها داخل المجموعة (القطيع) لأنها لن تضمن لهم الحماية وهم منعزلون. اما النقطة الثانية فهي الفكرة الدفينة وراء رفض تعبيرات الحبّ المعلنة على الجسر بشكل منظم يدخل في نطاق حملة إعلامية لتحويل رمزية المكان من الانتحار إلى الحب. فالعاشق الجزائري الذي يصعد إلى الجسر ليضع قفلاً، لا يكون لحظتها ضمن حالة التعبير فقط عن الرغبة، بل يكون في تجربة جديدة وهي حال إظهار تلك الرغبة.
إظهار الرغبة هي النقطة الثانية التي تخيف المجتمع الذي يرغب في الاحتفاظ بالفرد ويرفض خروجه منه. المسألة إذاً مرتبطة بمفهوم الظهور paraitre le بالمعنى الفينومينولوجي الفلسفي، الذي يمكن أن يوصل إليها الحبّ وتعبيراته. فالظهور يتطلب شجاعة، والشجاعة تعتبر أهم الفضائل لأنها هي التي تجعل بقية الفضائل ممكنة. فمن يتشجع ويظهر رغباته، سوف يتحرر من سياجات الجماعة، ويظهر كفرد يستطيع التمرد على كل سياج آخر، سواء أكان اجتماعياً، أم حتى سياسياً. أي أنه بدأ يبادر وحده، ويتصرف وحده من دون وصاية أحد، الأمر الذي يشكل تهديداً حقيقياً للمجتمع. فإذا كانت تجربة الاختلاف تجعل العاشق يخرج من القطيع ولو لفترة، فإنّ تجربة “الظهور” تجعله يخرج من القطيع بصورة نهائية.
فمن عشق وهام وانعزل ثم عاد، يكون قد خرج من القطيع وعاد ثانيةً. غالباً ما تكون العودة من خلال أهم مؤسسة اجتماعية هي الزواج. أو يكون قد تخلّص من ذلك السحر الذي هام به وعاد إلى رشده وذابت ذاته في الجماعة ثانية. لكن من عشق وهام وحاول التعبير وإظهار حبّه، يكون ساعتئذ قد ذاق طعم الحرية ولا نراه عائداً إلى قطيعه بعد ذلك الظهور. ففكرة الظهور بالحبّ، أو الظهور بفكرة، أو حتى الظهور برأي، تخلق الفرد الحرّ النائم فينا. وهذا ما يزعج حرّاس القيم في المجتمعات المحافظة ويحرك حفيظة حرّاس النيات.