من درس القرآن الكريم وسيرة النبي الكريم، وسيرة الخلفاء الراشدين، تأكّد أنّ الإسلام جاء بمباديء عامة، وقيما معيارية، تصلح أسسا للحكم الراشد، ولم يأت بصيغ دقيقة ومحدّدة لطبيعة الحكم وكيفيات وآليات في اختيار وعزل الحكام أو محاسبتهم، أو تحديد دور الأمة في الرقابة.
فقد دعا منهج الإسلام إلى تحقيق العدل ومحاربة الظلم، حتى اعتبر بعضهم العدل أساسا للشرعية، فكل الخير في العدل، وكل الشرّ في الظلم، قال الشيخ ابن تيمية: ” جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم “- (المجموع 1/80).
وأمر الله بالمساوة واستنكر كل حيف أو تعسّف ضد الإنسان بسبب لونه أو انتمائه أو دينه أو جنسه، وأكرم العقل وأمر المسلمين بالتفكير والاعتبار ” فاعتبروا يا أولي الأبصار “، فهم مسؤولون عن العمران والتطور، ومواجهة الصعاب والكوارث والمشكلات تبعا للتوجيه: ” أنتم أعلم بشؤون دنياكم “، ولن يتحقق ذلك إلا بالشورى ” وأمرهم شورى بينهم “، ينتقون من خلال المدارسة والبحث، أحسن القول وأفضل الآراء، لإيصال الحقوق للناس والرعية وتنظيم الواجبات وطرائق تنفيذها في إطار من النظام والحرية، وقد استدل أبو حنيفة على الحرية السياسية بما فعله الإمام علي رضي الله عنه مع الخوارج؛ وهم حركة متمردة، فقال لهم: ” لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولن نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا “، هذه أهم الأسس القيمية التي يقوم عليها الحكم في الإسلام، عدل ومساواة، مسؤولية الإنسان في بناء الدولة ومتطلبات بقائها واستمرارها، الشورى الملزمة، تحديد الحقوق وتنظيم الواجبات، النظام، وحق الناس في النقد والنصحية وإبداء رأيهم.
فالسياسة كما يعرّفها ابن عقيل: ” ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي “، وهذا الذي عُرف في باب الاجتهاد بالمصالح المرسلة، وقد أخذ به الفقهاء الراشدون، بل وأكثروا منه، خصوصا في زمن خلافة عمر رضي الله عنه.
فالخلافة أو الإمامة أو الإمارة أوالحكم في حقيقة الأمر من مسائل الفروع، يقول سعد الدين التفتازاني: ” لا نزاع أنّ مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق .. وهي من الأحكام العملية دون الاعتقادية”، وسبب نقلها إلى أبواب العقيدة، ما ظهر من خلافات كبرى، وفرق هدّدت وجود الأمة وعرّضتها لخطر الانقسام، والتحارب الداخلي .
مات النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يترك صيغة محدّدة لاختيار الحاكم الذي ينوب عنه، ويتولى شؤون الدين، وحراسة الدنيا، واختلف الصحابة، حتى قال الأنصار منا وزير ومنكم وزير، وارتفعت أصواتهم، ثم توافقوا على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وأوصى أبو بكر الصديق بالخلافة إلى عمر وبايعه الصحابة، وترك عمر الفاروق أمر الخلافة في مجلس شورى مكوّن من ستة رجال، واختير عليّ رضي الله عنه بعد مقتل عثمان في ظروف خاصة، تميّزت بالتوتر، وجاؤوه إلى بيته وحمّلوه أمر الخلافة، كل هذا الاختلاف يبيّن أنّ اختيار الحاكم لم تُحدّد له صيغة خاصة، ومجلس الشورى أو أهل الحل والعقد اختلفت صيغ اختيارهم، وكم هي أعدادهم، وهل هم تمثيليون، أو من أهل الجاه والتأثير والنفوذ، وظل الحكم الإسلامي من العصر الأموي إلى العصر العباسي، إلى الأندلس، وعصر الدويلات، يبدع في الصيغ ويستفيد مما عند الآخرين ومن غير حرج، والكتب التي ألّفت في الأحكام السلطانية، مثل كتب الماوردي ” الأحكام السلطانية “، أو ” نصيحة الملوك “، أو كتب أبي يوسف ” الخراج “، أو ما كتبه بعضهم في السياسة الشرعية، من مثل ” السلطان ” لابن قتيبة، و ” الشهب اللامعة في السياسة النافعة ” لأبي القاسم المالقي (ت 783هـ)، أو ” غياث الأمم ” للجويني إمام الحرمين، أو ” الطرق الحكمية ” لابن القيم، أو ” السياسة الشرعية ” لابن تيمية وغيرهم كثير، كلها كتب ولدت في رحم الفكر السلطاني، فكانت تفسيرا للحالة القائمة ومحاولة ضبطها بأحكام الشريعة، والاستفادة من بعض ما في الدول الأخرى من صيغ، أو بروتوكولات للحكم، وقد استفاد عمر بن الخطاب في حكمه من دواوين الحكم الساساني في بلاد فارس، ومن بعض صيغه، بل وفرض الضريبة الجمركية بلغة عصرنا عملا بمبدإ المعاملة بالمثل، وأخذ عثمان بنظام الشرطة تقليدا للأعاجم، وكذلك نظام السجون، واقترح عمر نظام التوقيت المحدّد للمسؤوليات، فكان ” لا يقرّ عاملا أكثر من سنة، وأقرّ أبا موسى الأشعري أربع سنوات “، وكان شعار عمر: ” خير لي أن أعزل كل يوم واليا من أن أبقي واليا ظالما ساعة من الزمن”.
كل هذه الحقائق من النصوص، ومن واقع النبوة والتاريخ، تؤكّد أنّ الإسلام لم يأت بنمط معين للحكم، ولا بقالب للحكم ينفذ في كل عصر ومصر، مهما كانت التحولات والمتغيرات، بل إنّ التحديد يتنافى مع عالمية الرسالة وصلاحيتها لكل زمن مهما حدث فيه من تحوّل.
وكما اقترح بعض أهل الفكر والنظر من المعاصرين: ” لابد من إعادة كتابة نظرية الفقه السياسي على ضوء الواقع “، فمفهوم الطاعة الوارد في النصوص معناه الانضباط، واحترام المؤسسات والقانون التي تضعه الأمة، ولا يختلف عاقلان في أنّ الحكم باسم المؤسسات الخاضعة للرقابة والمساءلة أفضل من الحكم الفردي، وليس من الحكمة في شيء وضع صلاحيات السلطة والمال في يد فرد مهما كان تقيا ورعا، فمن المصلحة الكبرى حماية الأمة من النزعة الاستبدادية ومآلاتها المهلكة ، فكما قال الشيخ ابن تيمية: ” إنّ الله يقيم الدّولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة ” – (طريق الوصول إلى العلم المأمول ص 27).
وأهل الحل والعقد، الأفضل اليوم أن تختارهم الأمة، بانتخاب شفاف وحر، وهم يمثلونها ويدافعون عن خياراتها، وذلك أحسن من تعيينهم من الحاكم الفرد، الذي يتّجه غالبا إلى تعزيز سلطاته وصلاحياته.
والتداول على الحكم بالاختيار الشعبي المنظم، أفضل من التوريث وحكم العائلة، فالنبي لم يورّث، وأبو بكر لم يورّث، وعمر لم يورّث الحكم لابنه عبد الله الصالح بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وعثمان لو يوص لأحد من أهله، وعليّ لم يورّث الحكم،وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون الذي أمرنا بالاقتداء بهم.
وما كتبه الفقهاء قديما كان مسايرة لحالة أفرزها واقعهم، وأنتجتها ظروفهم، فحتى الأحكام السلطانية هي تقليد لأحكام فارس والروم.
فمادام الحكم من أحكام الفروع القابلة للاختلاف والاجتهاد، ومع ثبوت عدم ورود أي صيغة ملزمة لطبيعة الحكم، ومع التأكد من فساد الاستبداد، وما جنته أمتنا من نتائجه المرّة قرونا، وما تزال تجنيه اليوم، فالمؤكد أن طبيعة الحكم وشكله متروكة للأمة المسلمة التي تستفيد من كل جديد تتيحه الظروف، وتكيفه وفق ثقافتها وخياراتها الحرة، والقول بفكرة نظام إسلامي له قالب خاص سلفي، تخرّص وقول بلا حجة، ورغبة فقط في تبرير حكم عائلات معينة، آن الوقت لتغييرها.