ياسين بوغازي
شيء من التاريخ
نصف الثمانينات الثاني
كانت سنوات النصف الثاني من عقد الثمانينات مسرحا لأغنية رايوية أخرى، كانت أغنية فاجعة هي تلك التي تخلصت من عقدها التي تراكمت طويلا منذ عصر الشيخات وما تلا. وقد نالت اعترافا رسميا في هذا النصف الأخير وإشادات مهمة خصوصا في المهرجانين المؤسسين لشرعية الأغنية في مسقطها وهنالك في الجادة الباريسية.
و أن هذا الاعتراف جعل الأغنية تنطلق في الأجواء الغنائية الجزائرية تلك وفى الفضاءات التي كانت متاحة للغناء وهي عموما كانت فضاءات غير رسمية كسوق الكاسيت الذي ازدهر كثيرا في ذلك العقد وعرف مع الراي انتعاشا ربما جعل هذه الفترة الأبرز في تاريخه كله من حيث الانتاجات ومن التنوع الغنائي والانخراط الكبير للرايويين الرواد والنجوم والجدد في فضاءاته المعتادة كالنوادي الليلية والأعراس وما إلى تلك الأشكال التي اعتاد الراي أن يتوفر فيها.
في هذا النصف انطلق بجرأة أكثر وبرغبة عارمة في خوض وتكريس أغانيه وأنماطه المختلفة وفي إيضاح تجلياته الغنائية والموسيقية التي بدأت مبهرة وقد ملكت سوق أشرطة الكاسيت بصفة ألغت الطبوع الأخرى على التواجد فكنت لا تجد سوى الراي في تلك الأكشاك والمتاجر التي امتهنت بيع أغنية الراي.
انطلق كما المارد من قمقمه الذي قيد طويلا وقد فتحت أمامه الأبواب كلها لينتقم لتلك الفواجع التي سبقت، كما المارد في جلب الإبهار الغنائي والتميز في كل ما يطلع من هذه الأغنية فتزايدت الجموع في الإقبال عليه فيما بدأت الأغنية تهيئ لها مكانا أضحى لا يطال في الأجواء الغنائية الجزائرية في تلك الفترة انطلق كالمارد بعد زمن القيد وبروحية جديدة تجلت أغنية منتصرة بعد حرب ضروس.
فى الحقيقة ما حدث يمكن وصفه كما الزلزال الرايوي غير المسبوق في ساحة غنائية كانت ضيقة جدا وأن حضوره الطاغي الذي اشتد أكثر صار ميزة مرحلة كاملة، فأينما وليت وجهك في تلك الفترة الزمنية كان الراي حاضرا وأسماؤه تملي الأسماع ونجومه يجلبون الآلاف والآلاف عند كل ظهور فكانت الأغاني التي بقيت تسجل حضورها وكأنها تاريخ مسجل من أعمال الموسيقار صافي بوتلة والثنائي فضيلة وصحراوي ومامي الصاعد الجديد والأسماء الأخرى الذي بدأت في الساحل الوهراني تثير ضجيجا رايويا بدا مختلفا وكان لها فيما بعد أثر كالراي الذي سمي بالعاطفي وتجارب أخرى مميزة ؟
وفي الجانب الآخر كانت أسماء الرايويين منهمكة في تجارب موسيقية أعطت فيما بعد وجها مزدهرا من هذه الأغنية وتراكما مكنها من الصمود والمقاومة. ففي هذه الفترة التي ساهمت فيها عدة عوامل في تجلي هذه الأغنية وبروزها بهذه الطريقة كانت متداخلة بعضها مع بعض فيما يصعب فرزها بعد ذلك التاريخ الطويل.
ربما كانت الانعطافات التاريخية التي كانت في تلك الأثناء أو ربما السطوة التي مر بها الراي في العقود التي سلفت كالسبعينيات والمنتصف الأول من الثمانينيات أو تلك الأبعد قليلا في الستينيات مثلا، وربما قد تكون الساحة الغنائية الجزائرية التي رغم غزارة مواردها الموسيقية وشتى الأنماط المتوفرة الأخرى والتي بدت مع الصعود الرايوي وكأنها استهلكت وقتها تماما فلم تعد تطيق وطأة المنافسة.
وساحة غنائية جزائرية قد أصابها الكساد في المعنى والشكل والإيتاء بالجديد بل أن مللا من طراز معين طرأ في تلك الأوساط المتلقية لها فأضحت ضعيفة وقليلة الإقبال وجاءت أغنية الراي التي لطالما كانت متربصا غنائيا أنهكه الهامش والشوارع الخلفية فطلع كما المارد الذي لا يمكن مجابهته وأحدث ما أحدثه.
فضرب المتن الغنائي الجزائري الذي كان سائدا وربما هو نفسه ذلك المتن الذي حذر طويلا من هذه الأغنية وخافها وحاول إقصاءها لكنها أخيرا جاءت كما لم يحب.
والراي بأسلوبه وأغانيه وبما يعليه في نصوصه وقد بدأ في هذه الفترة يأخذ شكل أغنية رايوية أكثر جرأة وقسوة وأغنية متفتحة إلى أبعد حدود التعبيرية والتوظيفية إلى كلماتها المغناة والشعرية أو في المضامين الموضوعاتية والأشكال اللحنية التي كانت تستظهرهم جملها عبر تجلياتها الموسيقية، لقد أخرج الراي مكامن التمرد والغضب في هذا النصف الأخير من عقد الثمانينات تلك التي كانت تحت المحاذير إلى الساحة وأضحت تقال دونما رهبة.
ورغم أن العقد الثمانيني كان فاجعا أيضا في أغنيته تلك التي ظهرت في سنتيه الأخيرتين من نصفه الأول وأين كانت الإصدارات الغنائية المتنوعة بأصوات العديد من الأسماء الرايوية من الرواد المؤسسين و الرواد والأسماء الجديدة التي بالكاد أخذت حظها لأول مرة وكانت في بدايات مشوارها الرايوي لعل مامي نموذجا.
ونتحدث عن الجرأة التي اشتدت في الكلام الذي أضحي على المكشوف في بعض التجليات مما كان يستحي قوله أو كان يتداول في نطاق ضيق على هامش المجتمع وبين فئات بعينها لكنه أضحى مع الراي شعرا يغني. الأمر الذي جعل هذه الأغنية التي لم تعد تملك خطوطا حمراء في القول تزداد في الحقيقة شعبية ويكثر الإقبال عليها بما لم يكن متصورا ؟ فقد أعجبت لأنها تحكي على اليومي المتعب بمباشرة ولغة دارجة قاتلة في أحيانا كثيرة وليست تلك المصورة شعريا في قوالب الأشكال الحالمة التي كانت سائدة وتكتفي بالرمزيات.
لقد فتحت أغنية الراي خطوطا كانت تصنف حمراء لطالما حذر منها، لكنها معه أضحت متناولة ومع الأيام أصبحت وكأنها عادية ولنقول مقبولة بل أن هذه الخطوط قد ساهمت كثيرا في تبلور وعي موسيقي غنائي آخر أخذ يطالب بما هو أصيل وفتح نقاشات مهمة عن أغنية أصيلة ضروري أن تغزو جميع الساحات.