بقلم: معمر عيساني
أغنية “الراي” موروث ثقافي جزائري بامتياز ولم يخطئ الوزير “ميهوبي” في ذلك، بل هي ظاهرة فنية عميقة رافقت مرحلة خروج البلاد من شريعة “بومدين” إلى تسعينات الإرهاب وانتهاءً بعصر “بوتفليقة”.. الأغاني تُؤصّل من حيث لا ندري لوعي الشعوب ومعيشتها.. ولكن هل هذا مبرر لتدجين الذوق العام؟ وتغليب جهة على أخرى؟
المشهد الفني والفكري لابد له من انسجام يجمع أطياف المجتمع وهدف يحقق رُقيّه ونضجه، وكما هو منطقي إحداث ثغرات “للتنفيس” و”الترويح” فلابد من أسس جدّية لتحقيق وجود أمة. فالفن بعيدا عن الفكر مَهوى وباب للتخلف، والفكر دون فن جمود ونهاية غير معلنة لكيان بشري ما.
في الجزائر تناسى المسؤولون الفكر وانغمسوا في الفن البحت، الموضوعِ عندهم لأجل اللهو وإشغال الرأي العام، فشجّعوا الأغاني وشيّدوا الملاهي، وأقاموا حائلا بينها وبين الفكر المُقبَر في جامعات ومؤسسات عقيمة لا تبدع بل تنسخ وتمسخ.. هي في ذلك ليست مُتّهمة كل الاتهام، فالشعب بذاته مجبول على الغيّ مأخوذ بالطرب والصيحات، ووافق شنّ طبقة!
“مالك بن نبي” الذي ربط الحضارة ببناء الإنسان، لم يدرك للحظة أن وطنه سيحظى بشاب يغني “الواي واي”! ويصطف خلفه الملايين في رقصهم ليُلغوا ما تمنّاه المفكر على صوت “بن شنات”! إنها ثورة “الرداءة” التي ابتلعت جوهر “الراي”، فوصلنا ـ بقدرة قادر ـ إلى يوم نحِنّ فيه إلى أغاني الشاب “عقيل” و”حسني” رحمهما الله، ونشتاق لإبداعات الشاب “نصرو” و”مامي” و”محمد لمين”! وكأنهم باتوا مثل “أم كلثوم” و”عبد الحليم” لِما تعاقب علينا من مُنخنقة ومتردّية من الكباريهات، الذين وجدوا استوديوهات الإنتاج مشرّعة الأبواب لهم، فأصحاب “الشكارة” يوزعون الملايين لأجل تلك الأغاني الرائجة في الأعراس و”الكارت ميموار”!
أثناء كل ذلك.. تُهجَر قاعات المطالعة في المكتبات إلا من المضطرين والمرتبطين بالبكالوريا والبحوث الجامعية، وهيهات أن تجد ثلث الوافدين لحفلة “هواري دوفان” أو “الشابة خيرة” في أمسية شعرية أو عرض مسرحي! وكأن الثقافة حُصِرت في “الرقص” و”الكارنفالات” فسُيّرت لها كل القطاعات الأخرى دعما وتمويلا!
أنا لست من محرّمي الأغاني، ولست فقيها. ما أريده اتزان الكفتين، والنظر بعين الاعتبار إلى بقية الفنون، وترويجها إعلاميا، واستثمارها شعبيا، فإن كان “الراي” يحفل بالغراميات وصخب الملاهي، فلماذا لا نُلبِس المسرحَ والشعرَ والسينما وحتى عرائس القراقوز لباسَ الغرام وصخبا يليق بالاحترام، لا يأخذنا إلى الملاهي بل يأتي برواد الملاهي إليه، لعلنا نكتمل بهم في فسيفساء مجتمع ناضج لا مراهق!.