بقلم: محمد بوكحيل
يقول عالم الاجتماع البولندي، زيجمونت باومان، في كتابه الحداثة السائلة، “ما قررت أن أسميه بوضوح -الحداثة السائلة- إنما هو الإيمان المتنامي بأن التغير هو الثبات الوحيد، وأن اللا يقين هو اليقين الوحيد، إذ كانت الحداثة في المئة عام الماضية تعني محاولة الوصول إلى حالة نهائية من الكمال، أمّا الآن فإن الحداثة تعني عملية تحسين وتقدم لاحد لها، من دون وجود حالة نهائية في الأفق، ومن دون رغبة في وجود مثل هذه الحالة”.
اخترنا هذه الفقرة كمنطلق لمقالنا الشارح لمصطلح الحداثة، في صورة الوضع العربي الراهن، وهي الفكرة التي اختارها زيجمونت باومان، ليشرح بها مآلات الحداثة الراهنة، وربما كان ضيق المجال سبباً في حمل العقل واللسان على تحويل الفكرة الواسعة إلى شمعة سهلة المحمل حنينة الإضاءة.. أوكما يقول المثل “يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق”.
لقد لفت انتباهي هنا توصيف جميل لحجاج أبو جبر، مترجم كتاب الحداثة السائلة، ولمؤلّفه على وجه التحديد، إذ كتب يقول: “جعل الكاتب كتابه الحداثة السائلة رسالة في زجاجة مغلقة، وألقى بها في البحر ليلتقطها قارئ مجهول، وهي إشارة واضحة إلى أن ليس بالضرورة أن يصل الكاتب إلى حيث وصلت أفكاره، وليس مجبرا أن يظل قابعا على الرفوف حيث تراكمت كتبه، وليس له أن يغير حياته لمجرد أن وضعت بين أيدي القرّاء كلماته. .. كتاب الحداثة عَبَرَ المحيطات والقارات، وتعد عبر قرون، والتقطته الآذان قبل الأذهان، لترسم منه رؤىً جديدة لمفهوم الحداثة وإمكانية تطبيقها في كل مجتمع.
ما دعاني لمعاودة قول جوستاف لوبون: ( إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوروبية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها موردا علميا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوروبا مادة وعقلا وأخلاقا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه … إن أوروبا مدينة للعرب بحضارتها، وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً). هكذا تداعت الأفكار والمشاهد، وحضر التاريخ جلستي مع الكتاب حضورا قويا، فتذكرت التراث العربي الإسلامي واستحضرت معلومات عن حضارتنا وقيمنا، فاستعرضت بعض التحديات الّتي تواجه أمتنا! .. الحركات والسياسات والتوجهات الفكرية الّتي تسعى كلها لإرضاء الغرب، والإطاحة بمن سواهم، الهدف ذاته ولكن المظهر الخارجي والاسم يختلف باختلاف المكان والزمان والحاجة.. أنا لا أدعو هنا للتموقع ولا للتقوقع أبدا، والأكيد أنك عندما تشاهد الواقع وتقرأ الأفكار أو تسمع الأخبار فتشعر بالغصة وتعي مضمون قولي أمام تغطية السماوات بالقبوات؟!، إذ تجد في سياق المفاهيم مرامي إخفاءِ الأشياءِ الكبيرةِ بالصَغيرةِ والواضِحةِ بالمُبهمةِ والمكشوفةِ بالمَستورةِ، من أجل التغطية على الحقيقة.
فلنطرح السؤال: ما مفهوم الحداثة في العالم العربي؟
لو نظرنا في المعنى اللغوي أن للمصطلح في المعاجم مادة (ص ل ح) صلح الذي ترجع إليه لفظة مصطلح، أي ما يدل على إصلاح الشيء وصلوحه، بمعنى جعله مناسبا أو نافعا. وفي لسان العرب (الصلح من تصالح القوم بينهم واصطلحوا وصالحوا واصّالحوا بتشديد الصاد، بمعنى اتفقوا وتوافقوا)، فإذا كان المصطلح يعني الصلح، فما بالك إن صار الاختلاف والصراع فيه شديدا؟!.. تساؤل سيأتي جوابه.
لما كانت مسألة إنتاج المصطلحات وتصديرها من أبرز العلامات الدالة على قوة الحضارات أو انحطاطها، فالتاريخ سيخبرنا بحقيقتين تخصان هذه المسألة: أولاهما أن الحضارات القوية تكون أقدر من غيرها على إنتاج المصطلحات وعلى تصديرها، بينما تكون الحضارات الضعيفة أكثر ميلا إلى الاستهلاك، وأكثر بعدا عن الإبداع في هذا المجال وهو ما نراه. وثانيهما أن الأمم والحضارات تظل سابحة في انحطاطها ما دامت خاضعة لسلطة المصطلحات الوافدة، وفاقدة للقدرة على إنتاج مصطلحاتها والسعي إلى تصديرها، فلا يمكن المجادلة في المصطلحات كونها منظومة قيم تحدد هوية هذه الأمم وانتمائها، ولهذا السبب لم تكتف الحضارة الغربية بالهيمنة الشاملة على الشعوب، بل عملت على تصدير قيمها ومصطلحاتها وفرضها على هذه الشعوب بأساليب تبدو في كثير من الأحيان أبعد ما تكون عن التلاقح الثقافي وعن التأثير الطبيعي المتبادل بين الثقافات.
والمهم أن التعبيرات والألفاظ تحمل شحنة من المعاني مرتبطة بالبيئة التي نشأت فيها والظروف التي أنتجتها، وهي مغايرة للمعنى اللغوي الذي يمكن أن تدل عليه في كثير من الأحايين، فهي بذلك لا تحمل معاني مطلقة من التاريخ و(الزمان والمكان) اللذين نشأت فيهما ولما يستخدمها فريق حسب المتعارف عليه في البيئة المنتجة، يستخدمها غيره انطلاقا من المعنى اللغوي، أي عند التعامل معها في البيئة المغايرة، تترتب عليه أخطاء كبيرة.
ومن فضول القول الذي يعرفه الجميع أن التقدم في المعرفة البشرية في جميع مجالاته ظل يعتمد إلى حد كبير على توثيق المعلومات وتبادلها، واستخدام المفاهيم، التي نعبر عنها بالمصطلحات والرموز، أساسا لتنظيم الأفكار العلمية وجميع المعلومات الأخرى ولابد من الإشارة إلى أن عدد الجذور في أية لغة لا يتجاوز الآلاف، بينما تعد المفاهيم الموجودة بالملايين، وهي في ازدياد مضطرد مع ازدياد الباحثين والمبدعين.
وعن نظرة الإسلام إلى التجديد نقرأ في (سنن أبى داود، كتاب الملاحم) قول الرسول صلى الله عليه وسلم (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، وقد ادعى بعده كل قومٍ في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر من المعنى أنه يعم جملة العلمِاء من كل طائفة وكل صنف، “مفسرين، ومحدثين، وفقهاء، ونحاة لغويين إلى غير ذلك من الأصناف”. وفي سياق البحث نجد أن للتجديد قسمان: الأول هو التجديد بالأصالة، بينما الثاني هو التجديد بالتبعية، لأن وضع الحل سابق على تنفيذه طبعا. وقد حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من استعمال بعض الألفاظ وعوضهم عنها ألفاظا أخرى تنتمي إلى منظومتهم الثقافية والحضارية نورد منها الآية؛{ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ( 104 ) ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( 105 }- سورة البقرة.
وعلى العموم، فإن مفهوم التحديث يشير إلى نموذج للانتقال التدريجي من حال إلى حال، ومن تم فإن مفهوم الحداثة عند معتنقيها في العالم العربي لا يختلف عن مفهومها عند مؤسسيها وقادتها في العالم الغربي، فالحداثة بالمفهوم الساذج هي الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، مع تحديد المتغيرات الاجتماعية التي تسهم في التطور الاجتماعي وتنمية قدرات المجتمعات مع اعتبار الديناميات الداخلية والهياكل الاجتماعية والثقافية والتكيف مع التكنولوجيات الجديدة. ولما كان اعتماد حداثيينا للتجديد بالتبعية، كان الاختلاف في الاستخدام بيّنا وإذا انعدم الإبداع ساد التقليد.
ولأننا نروم الخروج بنظرة أولية حول تعامل المثقف العربي الإسلامي اليوم مع إشكالية الحداثة كمصطلح شائك ومعقد وغامض في عصرنا الراهن، قصد إبراز المضامين والحقول التي قد يرمز إليها، ومن تم فحص مواقف هؤلاء المثقفين إزاء هذه المضامين بنظرة تجديدية من خلف ستار التبعية، حيث ان المهتمين يرون أن الحداثة بمفهومها الراهن منهج فكري ومبدأ فلسفي لا يقتصر على الجانب الأدبي فحسب، بل يعم ويشمل كافة الجوانب الحياتية الاجتماعية والمعرفية والصناعية وغيرها، وتقوم الحداثة على مبدأ العقل والعقلانية وتهدر كل ما لا يدركه العقل المتحرر من كل سلطان، فهي إذن ترفض جميع العقائد والتصورات وأشكال التنظيم الاجتماعي التي لا تستند إلى أسس عقلية أو علمية.
ولا شك أن زاوية النظر والمكونات الشخصية المختلفة، كالدوافع الأساسية، والعادات الشخصية، الأصيل منها والموروث، والميول الذاتية التي تحركها القدرات الذهنيّة والبدنيّة، ودرجة الذكاء، والعقائد والأفكار التي تكون حصيلة التفاعل المجتمعي.. وراء الاختلاف بين التنويرين والحداثيين في استخدام مصطلح الحداثة، وهو اختلاف يبدو في ظاهره أنه انقسام داخل تيار واحد، بينما هو في حقيقة الأمر اختلاف في المنطلقات والأهداف. التنوير دعوة لانتصار العقل في مواجهة الخرافة وتحريف الدين، والحداثة ثورة على العقل بما فرضه من قيود وأنماط تحولت إلى جملة من الأيديولوجيات التي حدت من حرية الإنسان باعتباره نشاطا يتجاوز حدود ما يقرّه العقل وما يدخل في نطاق معاييره. وقد نجد أن بعض المثقفين عندنا وبرغم كثرة تداولهم لهذا المصطلح الجديد، يستعملونه عن قصد أو غير قصد في غير محله، وقد يريدون باستعماله أمرا ليس بالضرورة أن يكون محل إجماع الجميع.
ولأننا نتحدث عن الحداثة، ولأن البعض يرى في التطور التكنولوجي صورة من صور تهديد التقدم لثقافتنا، ونتيجة عجزنا عن التصدي والممانعة، لابد من القول أنه يجب أن يعلموا أن الخطورة ليست فيما تقدمه هذه التكنولوجيا من الفرص والمميزات وما يتبعها من المتغيرات، وإنما الخطورة في ربط تعاطي مجتمعاتنا العربية المسلمة مع التطورات، برفض الثابت وطمس التاريخ والتخلي عن القيم والأخلاق، وفق منطق التحايل على الواقع الذي يحول الثابت تابعاً للمتغير، ويعطي المتغير سمات وخصائص لا يملكها.
وعندما تكون الكتابة لُعبة فكرية، يفقد المجتمع جزءاً من قدراته المعرفية والأدبية، ويزيف إطار الوعي، ومدار الممارسة الثقافية، والسياسية، وتختلط المشكلات الصغيرة بالإشكاليات الكبيرة، فيفقد المجتمع صورة المعطيات والظواهر والعلاقات التي تؤثر فيه لتصبح الكتابة في الضفة الأخرى أداة من أدوات القهر الاجتماعي، وتسخر فاعليتها لتزوير الواقع وتزييف الوعي بطبيعته، لتستخدمه الأقلية دون وعي بالقيم. ومن المؤكد أن المحاولات والمناورات التي ظلت تستهدف المجتمعات العربية لم تعد تكفي لتغريب وتفتيت المجتمعات المتجذرة في الإسلام، مما تطلب استحداث وسائل الهدم عبر بوابة الفن والأدب وبعض وسائل الإعلام الحديثة والتقليدية عندنا.
لم نمارس عملية الكتابة كإلهام فقط أو لأننا صحونا ذات يوم فوجدنا أنفسنا بحاجة لذلك، بل هي نتاج حركة العقل بين المعلوم والمجهول. وقد تكون ترهلات فكرية تسعى لرصد حالة الاجترار في الأفكار والدوران في حلقة مفرغة، تمنع العقل عن طرح الجديد، وتغلق أمامه باب الاختلاط مع من هم خارج حدود الذات، فيبقى حبيس النظرة الواحدة، أو هكذا تقذف بنا نحو مجهول نحن رسمنا له الأفق الذي تتجه نحوه العقول دون دراية بأغواره.
الحلقة الأولى
يتبع