24 سبتمبر، 2020
الحوار الجزائرية
المجلة

الإسلام ثاني دين في أوروبا ومنها سيعود

  • مهمة الإمام في الغرب صعبة والعلم الشرعي وحده لا يكفي

  • العدل أساس الإسلام وهو ما تفتقده عديد الدول الإسلامية  

  • الإسلام نظام ونظافة وعدل وعلم وإحسان وتقسيم عادل للثروات وهو ما نجد بعضه في الغرب

  • أومن  بحوار الحضارات لا صدام الحضارات والمتحضّر الحقيقي لا يصادم أحدا

  • لا يستطيع عالم مهما كان أن يلم بجميع القضايا وخصوصياتها وبكل كتب الفقه!

  • باب الاجتهاد المطلق أغلق لكنه مفتوح في جزئياته ولهذا انتشر الفقه

 

في حديث مطول مع مجلة “الحوار”، تحدث الأستاذ عمر درمان عن راهن الإسلام في أوروبا، بكونه ثاني دين في فرنسا، معرجا بالحديث عن شروط الداعية في أوروبا، من علم بالشرع واللغات والأعراف.. تكلم أيضا عن بعض القوانين في أوروبا التي تتعارض مع شريعة المسلم، كقضية منع الخمار، وكيف يستطيع المسلم التعامل معها وفق سلم الضروريات والحاجيات والتحسينات.. تحدث كذلك عن التعاملات الخاصة بالمسلم مع المجتمعات غير الإسلامية، بين الانغلاق والذوبان والوسطية..

الشيخ عمر درمان أجاب أيضا عن أسئلة “الإسلاموفوبيا” وعلاقتها بالإرهاب وما سماه الشيخ بـ”الحقد القديم” على الإسلام، ونتائج ذلك بسلبياتها وإيجابياتها.. كما تحدث بإسهاب عن التيار المدخلي وفتاويه الشاذة التي لم يسلم منها حتى مسلمو أوروبا .. كل ذلك وأكثر تطلعون عليه في هذا الحوار.

 

• حاوره: حسين لوني

 

  • ما راهن الجالية الإسلامية في أوروبا؟

الوجود الإسلامي أو ما يسمى بالجالية الإسلامية بالغرب عموما، وفرنسا خصوصا هو وجود قديم ومتنوع كتنوع الطوائف والديانات ككل، والإسلام بحكم انه دين عالمي جاء للبشرية جمعاء، والبشرية متعددة بطوائف مختلفة، فهناك أيضا تدين إسلامي متعدد ومتنوع، منه التدين الذي طرأ على الغرب وهم الذين وصلوا من الدول العربية الإسلامية (الجزائر، المغرب، تونس).. هذه الجالية في حد ذاتها جاءت بأفكار وتقاليد إسلامية عربية، وهذا النوع من التدين تغلغل بدول الغرب، فتأقلم واحتضنته، حتى أصبح الإسلام اليوم هو ثاني دين في فرنسا، واعترف به الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك كدين ثان. وهناك الجالية الإفريقية التي أسلمت. وهناك أيضا جالية ذات أصول عربية فرنسية، نتيجة التزاوج بين العرب والمسلمين. وهناك الفرنسيون الذين أسلموا، ولهذا تجد الخطاب الإسلامي خطابا متنوعا ومتعددا، مع اختلافات في الطرح، وهذا كله يسعه الإسلام، فالإسلام دين واسع يسع كل الأطياف والشرائح.

  • في نفس الاتجاه، وبعكس ما يخاطب به الدعاة في البلاد الإسلامية، سواء الجزائر أو غيرها من الدول العربية، تقريبا كل المسلمين من أبناء ذلك البلد، سواء كانوا في الجزائر فهم جزائريون، ولو كانوا في المغرب فهم مغربيون إلى غير ذلك من الدول، لكن في أوروبا العكس تماما، يجد الإمام نفسه يخاطب أجناسا مختلفة.. كيف يستطيع أن يوحد الخطاب؟

ينبغي أولا أن يكون الإمام أو الداعية باحثا اجتماعيا، والإسلام بحد ذاته قابل للتأقلم ولاستيعاب المجتمعات. القرآن الذي هو المرجع الأول في الإسلام، يحتوي سورا مكية 86 سورة، و28 مدنية، لماذا هذا التقسيم؟ هذا دليل على واقعية القرآن الكريم، ودليل تأقلم.. فقد نزل في مكانين وسمي باسمهما، كما أن هناك خصائص للقران المكي وأخرى للمدني.. فهذا دليل على أن الداعية أو الباحث الإسلامي عليه أن يتأقلم.. هذا التأقلم يكون بطرق متعددة، هناك من يقول إن الخطاب الإسلامي هو الذي يتأقلم مع المجتمع، بمعنى أن المجتمع هو يطوع الإسلام! وهذا الخطاب نرفضه تماما، وإن كان بعض المفكرين من يقول به. أما المراد بالتأقلم عندنا، فهو مراعاة الإسلام لأعراف الناس غير المخالفة للشرع، وفي القران الكريم (خذ العفو وأمر بالعرف).. والعرف أنواع، منه المقبولة والمرفوضة. وبالتالي فالخطيب أو الداعية في الغرب ينبغي أن يتفطن لهذه الجزئية المحورية في الخطاب، لهذا نحن لا نقبل في كثير من الأحيان -من وجهة إسلامية بحتة- أن يأتوا من خارج المنطقة الفرنسية بدون فهم للواقع هنا، وبدون دورات علمية عن تلك المنطقة وخصوصياتها، كخصوصية القرآن المكي والمدني.

  • كثيرة هي القوانين في أوروبا التي تتصادم مع شريعة المسلم، كضرورة نزع الخمار في الجامعة أو المدارس.. كيف على الداعية التعامل مع هذا الوضع؟

في فرنسا ليس ممنوعا في الجامعات، وإن كان كذلك في الثانويات والمدارس. والمشكلة في حقيقة الأمر سياسية في المقام الأول.. وهو من مسؤولية ممثلي المسلمين في الغرب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، والمسؤولية أنواع ومستويات، ومن هذه المسؤولية من اتخذ مهمة الخطاب السياسي الإسلامي أو الدفاع عن القضية الإسلامية في أوروبا، وللأسف هناك بعض المسئولين لا يقومون بواجبهم، على مستوى الطبقة السياسية العليا، ولهذا وقع الضعف. بحيث نرى جاليات أخرى لا تظلم بتاتا، لأن الجمعيات المدافعة عنها قوية جدا. لكنها ضعيفة على مستوانا..

النبي صلى الله عليه وسلم قال لآل ياسر حين كانوا في مكة: “صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة”، لأن المسلمين كانوا في حالة استضعاف، ولم تكن مرحلة مقاومة وصدام. لكن هذا كان في زمن النبي الأكرم في العهد المكي، والمجتمعات اليوم في أوروبا مختلفة عن تلك المرحلة، لأن هناك ترسانة من القوانين تدافع عن الأقليات وحرية المعتقد. إذن الأصل أن هؤلاء المسئولين السياسيين يدافعون عن الجالية المسلمة في ظل وجود هذه القوانين، كما هو الحال بالنسبة إلى الديانات الأخرى، هذا من الناحية السياسية.

المسؤولية الثانية هي مسؤولية دينية، أي كيف يحل الداعية أو المفتي أو الفقيه هذه الإشكالات؟ وهنا يقع العبء على الباحث والمدقق في الأمور الشرعية، وقد ذكر الفقهاء قديما وعلماء الأصول أن الشريعة جاءت للحفاظ على الضروريات الست: حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ الدين، ثم الأموال والأعراض، والضرورة السادسة هي الحرية، بحسب العالم الجليل الطاهر بن عاشور. وزاد بعض الأساتذة مثل الأستاذ عبد المجيد النجار إنسانية الإنسان كأصل بشري إنساني، والمجال مفتوح للاجتهاد. فإذا تعارضت هذه الضروريات كما في قضية الحجاب التي يتعارض فيها مقصدان شرعيان: حفظ الدين بالتزام الحجاب، أو حفظ العقل بالدراسة والبحث العلمي. فتقدم الضرورة التي تكون أشمل وأوسع وأنفع للشخص وللمجتمع. لأن الحفاظ على العقل أنفع وأشمل للمجتمع من الحفاظ على الدين في هذه الحال. أي الذهاب إلى الدراسة مع نزع الخمار أولى من عدم الذهاب. لأن نفع العلم متعد، والبنت لن تصبح طبيبة، ولا تصبح معلمة، ولا صحافية إلا إذا ذهبت إلى المدرسة، كما أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. وهذا ليس كلامنا نحن، بل ذكره الإمام الشاطبي وغيره، وهو من قال إن الحجاب من التحسينيات وليس من الضروريات.

  • هل يعني ذلك أن نزع الخمار جائز؟

ليست القضية فقط قضية حرام وحلال. هناك في الشريعة ما يسمى بسلم الأحكام الخمسة، من الواجب والمستحب والمباح والمكروه والمحرم، وهذا للحكم على الفعل، لكن هناك سلم آخر يدعى بسلم المقاصد، وهو ثلاثة، الضروريات والحاجيات والتحسينيات، فوضع الشاطبي رحمه الله الحجاب في التحسينيات، وليس في الضروريات، فيمكن أن يكون الشيء واجبا لكنه تحسيني. وفي مثال الحجاب تعارَضَ ضروريٌّ –الذي هو الحفاظ على العقل- مع تحسيني، فيرجح الضروري على التحسيني. ومن أجل هذه القضايا المعاصرة، تقع مسؤولية كبيرة على عاتق الدعاة والأئمة، مع واجب أن يكون باحثا ولا يكتفي بما اكتسبه من علم شرعي.

  • يعني مهمة الإمام في أوروبا أصعب منها مقارنة بالجزائر، حيث لا يوجد مثل هذا النوع من القضايا الشائكة؟

أصعب بكثير! لأنه عليه أولا أن يكون متحكما ضابطا للأمور الدينية والأصولية والمقاصدية، ثانيا عليه أن يكون ضابطا للعرف. والعرف يمكن أن يضبط ويفهم حتى من عند غير المسلمين، كعلماء الاجتماع والفلاسفة الغربيين، فيستفيد المسلم -كما ذكر ابن رشد عليه رحمه الله في كتابه “فصل المقام”- من الحكمة من القدامى، والقدامى يقصد بهم علماء اليونان. فالحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق بها، فعليه أولا أن يكون ضابطا وقارئا وباحثا في القضايا الشرعية وعلم الاجتماع.

  • هل صعوبة الإمامة في فرنسا لها علاقة بالقوانين الفرنسية الصارمة التي تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية؟

ليس كل القوانين الفرنسية أو الغربية تتعارض مع الشريعة الإسلامية. وكما تعلم لقد هاجر الصحابة إلى الحبشة عند ملك قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يظلم عنده أحد”،  والمعيار في التعاملات الاجتماعية هو العدل، والعدل في حد ذاته قيمة مطلقة إذا طبق على الجميع. لأن القيم أحيانا لا تكون مطلقة بل نسبية ومحددة. قال تعالى: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”، وإن كان التعاون قيمة، لكنه نسبي باعتبار الجهة سلبية أو إيجابية. أما العدل فقيمة مطلقة، ولهذا بعث النبي المهاجرين الأوائل للحبشة لأن النجاشي كان عادلا. وإن كانت في الغرب بعض القوانين تعارض الأصول الإسلامية، وهي قليلة في الحقيقة، لكن جل القوانين لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، فالإسلام نظام ونظافة وعدل وعلم وإحسان للفقير وتقسيم عادل للثروات، وهذا نجده مطبقا في الغرب، مع غيابه في كثير من الدول التي تدعي الإسلام، فالإسلام دين العدالة، متى طبق هذا العدل، وكما قال ابن القيم رحمه الله: “أينما كان العدل فثمة شرع الله”.

  • لكن العدل الإنساني نسبي، فما يراه الشخص عدلا، قد يراه غيره ظلما وتعديا؟

نعم؛ هناك ظلم لا يجوز للعاقل أن يتغافل عنه، مثل الإسلاموفوبيا التي انتشرت، وهي قضية جديدة لكنها حقيقية وموجودة فعلا، ولا يحق للعاقل إنكار هذا، لكن هناك مجال للحوار دائما، وللتصريح بالآراء التي يراها المسلم.

  •  هناك مشكل آخر مطروح وبقوة، وهو أن المسلم الملتزم، لاسيما إذا كان أوروبيا أصليا، لا يدري كيف عليه أن يوجه ولاءه، لان الولاء من الإيمان، يعني هل يكون ولاؤه لدولته الأصلية؟ كيف يكون ذلك؟

أولا الولاء في الإسلام هل هو من الأمور العقائدية أو المعاملاتية؟ الراجح أنه من الأمور المعاملاتية، وليس من العقائد في شيء، هذا الإشكال يقع فيه عديد الأساتذة والباحثين، لكن هناك بحث قيم في موقع الشيخ بن بية حفظه الله، ذكر أن الولاء ليس من القضايا العقائدية التي تكون خالصة لله. أما في المعاملات فتكون مع المسلمين وغير المسلمين. قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”، بمعنى أن هذه الآية أنزلت في عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان كافرا، لكن الله سبحانه وتعالى أقر الرسول صلى الله عليه وسلم في حبه لعمه حبا بشريا عاديا. والشريعة تجيز للمسلم أن ينكح مسيحية، فكيف لا يحبها وقد أنجب منها أولادا!! وكيف لا يحب الولد جده وأخواله المسيحيين!؟

إذن هذه قضية معاملات وليست قضية عقائدية بحتة. كيف نتعامل كمسلمين مع غير المسلمين، كما تتعامل الدول الإسلامية مع غير الإسلامية. والتعامل مبني على السياسة والاقتصاد والمنفعة وهو ليس ولاء.. ومنه التعامل السياسي مع عمدة البلد، لأنه مرتبط بمصالح الناس، ومن خلاله استطاع المسلمون بناء ما يقارب 2000 مسجد، وإنشاء مقابر للمسلمين، وعقد مؤتمرات سنوية يحضرها كبار العلماء والدعاة.

  • مقابل هذا الانتشار الملفت للإسلام بين الأوروبيين والفرنسيين خصوصا، وأمام بناء عديد المساجد والمؤتمرات الإسلامية والملتقيات، ربما نشأ تجاه ذلك تضايق وموجه كراهية تجاه الإسلام، أي ما يسمى الإسلاموفوبيا.. إلام يرجع ذلك؟

هذا الخوف قديم جدا منذ ظهور الإسلام. كما صرح بذلك أحد القساوسة الفرنسيين في كتاب له، بعدما ذكر قول الله “ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة”، متعجبا من أوروبا كيف ماتزال في حقدها القديم تجاه الإسلام، رغم الانفتاح على العالم ككل.. رغم التواصل.. رغم هذا الوجود الإسلامي الذي لا يمكن لأحد أن يتغافل عنه أو يتجاهله. إضافة إلى ذلك، أوروبا مرت بمراحل عديدة، والآن هي في مرحلة ما بعد الحداثة. مرت بمرحلة التدين، ثم الفصال، ثم الحداثة (عصور الأضواء أو التنوير النسبي)، ثم هي الآن في عصر ما بعد الحداثة.. حتى القيم الآن لا تعتبر! ليس هناك قيم معنوية، هناك تقريبا 10% من الكنائس في فرنسا يفترض أن تغلق حيث لا يزورها أحد.. في إيطاليا هناك كنائس قديمة بنيت في القرون الوسطى أصبحت اليوم أماكن للرقص.. أوروبا باتت تتجه نحو الإلحاد أكثر فأكثر.. وهذا الذي جعل الأوروبي دائم البحث عن مادة روحية، لأن الإنسان لا يمكنه أن يعيش بدون روح.

وفي المقابل، هناك من يرفض هذا الوضع، ومنه كتاب لمجموعة من المفكرين الألمان عنوانه “قوة الدين في المجال الاجتماعي”، مبرزين أن الدين قوة عظيمة لا يمكن التغافل عنها، وسار على نهجهم رؤساء عديد الدول الأوروبية ومنها فرنسا. لكن الإشكال أن أوروبا قد تخلت عن الدين وفصلته، ليس عن السياسة فقط، بل عن الدنيا، عن المجتمع، وعن الحياة ككل. فكل الأديان تعاني في أوروبا، الإسلام والمسيحية واليهودية.. إنه إشكال كبير متمثل في عزل ممارسة الأديان. لكن على النقيض من ذلك، هذه العزلة تؤدي إلى البحث عن حقيقة الأديان… إلى درجة أن ما نراه نحن من محاربة الإسلام في الجرائد والمجلات والإذاعات والقنوات، كل هذا جعل الشعوب الأوروبية تبحث عن حقيقة هذا الدين، لأنهم في يومياتهم يعرفون المسلمين.. هم زملاؤهم وجيرانهم وأصدقاؤهم… وبعد حادثة 11 سبتمبر على سبيل المثال، نفدت كل نسخ القرآن الكريم من شركة لافناك، التي تعد من أكبر الشركات في بيع الكتب.

  •  كيف أثرت العمليات الإرهابية في تشويه صورة الإسلام في أوروبا؟

تصرفات غير المسلمين وحتى بعض المسلمين متنوعة ومختلفة، كما ذكر تعالى في القرآن أنهم “ليسوا سواء”، منهم من لم يزده ذلك إلا حقدا على الإسلام، وإصرارا على ما لديه من أفكار مسبقة تجاه الدين. كما أن منهم من يسمع عن الإسلام لأول مرة..

جاءتني سيدة فرنسية غير مسلمة عمرها 65 سنة خلال محاضرة أجريناها للتعريف بالإسلام في تلك الظروف الخاصة، وقالت لي إنها أول مرة تسمع فيها محاضرة عن الإسلام، ولم تكن من قبل قد سمعت عن الإسلام قط!.. وطبعا عديد المساجد والمراكز الإسلامية أخذت على عاتقها مسؤولية الدفاع عن الإسلام، وعقدت محاضرات وندوات، وكانت تدعو إليها حتى غير المسلمين.

وكما أسلفت ففهم الدين متنوع، وذلك حتى عند المسلم أحيانا.. وللأسف أذكر مرة في إحدى المحاضرات بإحدى الضواحي الباريسية، كان من الحضور أشخاص غير مسلمين، لكن بعض المسلمين خرجوا بمجرد دخول هؤلاء.. فهذا الجهل بالإسلام حتى من أبنائه، يؤدي إلى فهم خاطئ للإسلام من غير المسلمين. متجاهلين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفد إليه كل الطوائف إلى المسجد.

  • يعني أن أغلب الأحقاد التي تكون بين غير المسلمين والمسلمين هي عن سوء فهم للآخر؟

أحيانا نعم، يوجد سوء فهم كبير، وأحيانا بسبب سوء التمثيل باسم الإسلام، وهناك أيضا الحقد القديم في الغرب، وإني لأتعجب عندما أجد مثقفا كبيرا كارها للإسلام، كارها للعرب.. بل لا أفهمه.

هذ الظاهرة موجودة حتى في الدول العربية، من كتاب علمانيين يفهمون الإسلام بطريقتهم الخاصة، ولهم توجه معاكس لعقيدة قومهم.

نعم، طبعا ليست فقط في الغرب.. لكن يبقى الأمر مثيرا للدهشة، فلو كان شخصا عاديا لأمكن أن تعذره، لكن كمثقف فلا! لأنه من الواجب عليه البحث عن الحقيقة، المثقف يتوجب عليه معرفة ثقافة بلده.. إذا كان في بلد يهودي فيجب عليه أن يعرف الثقافة اليهودية، وإذا كان في بلد إسلامي فيجب أن يعرف ثقافة الدين الإسلامي.. هذا هو المثقف الحقيقي، أي الذي يعرف ثقافة البلد باختلاف أطيافها، وإلا فليس مثقفا.

  • ربما هذا السلوك من “المثقفين” يفتح عليهم نافذة لسوء النيات، بأنه ليس سلوكا بريئا؟

أجل؛ يمكن أن يفتح أبوابا، فأحيانا نسيء الظن بالأشخاص بسبب توجهاتهم الغريبة غير المبررة.

  • مما يلاحظ أيضا، أن الذين اعتنقوا الإسلام من غير العرب أكثر التزاما بشعائر الإسلام، وبحثا عنه واهتماما به، عكس المسلم بالوراثة الذي ربما لا يفهم في السلام شيئا.. من هذا المنطلق، هل تعتقد أن النهضة الإسلامية يمكن أن تنطلق من أوروبا؟

نعم وارد، وعندنا مبشرات نبوية كثيرة، أن الإسلام يمكن أن يعود من الغرب، لأن الفهم الصحيح للدين للمعتقد الصحيح قد يكون من غير المسلم، الذي يبحث فيكتشف ويقتنع.. وكثير من العلماء الكبار لم يكونوا عربا. وأذكر مرة في درس الجمعة قبل الخطبة، طرحت سؤالا، والذي أجابني كان مسلما فرنسيا، فقلت حقيقة الإسلام في هذا الأمر العظيم.. الإسلام ليس في أحمد وعلي، ليس ارتباطا عرقيا.. الإسلام فهم صحيح للإسلام وتطبيقه، لأن مجرد الانتماء لا يبرهن على فهمه.

  • على ذكرك أسماء أحمد وعلي، لماذا أغلب الغربيين يغيرون أسماءهم إلى أسماء عربية بعد دخولهم الإسلام؟ هل هذا واجب من الناحية الشرعية؟

لا. هذا ليس واجبا شرعيا، لاسيما إذا كان معتنق الإسلام مفكرا وباحثا، مثل المفكر الكبير محمد أسد  الذي غير اسمه من ليوبولد فايس، فهو صاحب كتب رائعة، مثل “الإسلام على مفترق الطرق”، عرف فيه السنة تعريفا جديدا، وأشاد به الشيخ أبو غدة رحمه الله. فلماذا حين يكون للمسلم من غير العرب أفكار وعلوم بديعة تقدم للعالم الإنساني يقدم على تغيير اسمه؟ أنا لا أحبذه، وإن كنت أراه ميولا أكثر من أي شيء آخر.. لكننا نسألهم: هل دخلتم الإسلام أم دخلتم العروبة؟

  • دأبت وزارة الشؤون الدينية على انتداب أئمة من الجزائر لإرسالهم إلى أوروبا وفرنسا تحديدا، من اجل إمامة الناس بصلاة التراويح، هل هؤلاء الأئمة تتوفر فيهم الشروط؟ وهل إرسالهم ضروري؟

من أجل إمامة صلاة التراويح ليس هناك حرج، أما إذا جيء بهم للتعليم والخطابة، فإن الأصل أن نخاطب الناس بلغتهم، أي بلسان القوم.. فتعلم اللغة الفرنسية هنا من الواجبات، وليست من المستحبات، لأن الخطيب واجب عليه مخاطبة الناس بلغتهم التي يفهمونها، فلسان موسى عليه لم يكن عربيا، ولسان عيسى عليه السلام لم يكن عربيا أيضا. إضافة إلى ذلك، اللسان لا يقصد به اللغة فقط، وإنما الثقافة أيضا لأنها من اللغة، ففهم اللسان يراد به فهم لغة القوم وثقافتهم أيضا.

وحتى لو كان في دشرة منعزلة، لا تكفيه لغة واحدة، لأن الثقافات العالمية طرأت وامتزجت في المجتمعات الإسلامية.. حتى المقيم في قرية منعزلة لا تكفيه لغة واحدة، بل يحتاج إلى الفرنسية والانجليزية، لكي يفهم طبيعة هذا الغزو الثقافي، ويكون مدركا لواقعه والأمور التي تبرمج حوله، وقد يكون هذا المبرمِج أوروبيا أو أمريكيا.

وأيضا أنت لا تستطيع أن تحاور الآخر الذي لا يؤمن بالقران أو بالسنة باللغة العربية وحدها، ولهذا عديد العلماء ترجموا بعض الكتب الفلسفية والعقليات والمنطق حتى يتم الخطاب ويكتمل، وذلك بالتقاء الحضارات والتفاهم بينها.. فالمسلم داعية مطالب بأن يوصل الخطاب الديني إلى أهله، وإلى غير أهله.

  • يؤمن الأستاذ درمان بحوار الحضارات وليس بتصادم الحضارات؟

نعم أكيد؛ هذا واجب ديني، بعكس الكتاب الذي كتبه الأمريكي صامويل فيليبس هنتنجتون، “صدام الحضارات”، فالمثقف لا يصادم أحدا.. كيف تكون متحضرا وتصادم الناس!؟ هنا يكمن التناقض، فالإنسان المتحضر لا يتصادم مع الناس.. فالأصح هو حوار الحضارات، أو التقاء الحضارات، أو تقاطع الحضارات، وفي القرآن “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” وليس لتتناحروا أو تتقاتلوا. كما أن التعارف لا يكون بالتقوقع ورفض الآخر نهائيا، أو فرض مبادئه علينا.

  • المسلم تفرض عليه عقيدته عدم التنازل في عديد المسائل، ولديه خطوط حمراء في الحوار، لا يمكنه تجاوزها، بعكس الديانات الأخرى ربما؟

الحوار لديه أهله المختصون في ذلك، وله مراتب. فالحوار التعريفي نعرف فيه بالإسلام، في جلسة دينية (إسلامية، مسيحية، يهودية، بوذية) على أن يتم أخذ موضوع ما، كالصلاة، أو المرأة في الإسلام، أو في المسيحية، ويقدم كل طرف ما يراه حقا في دينه، فهذا النوع وإن كان بسيطا لكن يحتاج إلى سعة علم في المجال.

أما الحوار الذي فيه مناظرات ومقارعة للحجة بالحجة، كتلك التي كان يجريها أحمد ديدات رحمه الله، فهي تخصص صعب جدا، وله رجاله وأهله المتخصصون، ومستواه عال أيضا.. لأن المناظر لا يكفيه أن يكون عارفا بدينه، بل أن يتخصص في الديانات الأخرى بسلبياتها ومواطن العيب فيها كذلك، فهذا المجال لا ينبغي -بأي حال من الأحوال- أن يخوض فيه من ليس أهله، كما لا ينبغي أيضا صرف النظر عنه وتجاهله تماما.

في الغرب اليوم، نجد ثلاثة طوائف أو مدارس، طائفة آثرت الانعزال عن المجتمع، ورفض الأخر نهائيا.. وطائفة على النقيض منها تماما، ذائبة في المجتمع الغربي، بحيث لم يبق لها لون ولا طعم ولا رائحة.. والطائفة الوسطى التي هي عوان بين ذلك، فتعرف متى يجوز ومتى لا ينبغي التنازل، متى يكون الحوار أو ما يسمى عندنا بالاندماج الإيجابي، بين إفراط الذوبان التام وتفريط العزلة النهائية.. لأن هذا الانعزال قد يؤدي إلى فتاوى متناقضة تؤصل لتقوقعهم، مثل القول بعدم جواز البقاء في بلد الكفر وهو باق فيها.

  • ربما هذا يحيلنا إلى أحد الفرق المشهورة، وهو التيار المدخلي، الذي لديه فتاوى شاذة مثل تضليل أغلب الجزائريين، أو ادعاء أن كل من يعيش في الغرب، وما يسمى “بلاد الكفر” هو مرتكب ذنبا عظيما ويجب عليه المغادرة.. هل كان لديكم تصد لهذا التيار؟

نعم، للأسف الشديد. هو ما تعجبت منه أولا عندما وقعت هذه الفتوى هنا في الجزائر، وعلمت أن المفتي ينتمي إلى المدخلية، وهذا كله عجب والله عجب ! كيف لمسلم فضلا أن يكون عالما فاهما أن يكون له مثل هذا الانتماء!! الانتماء إلى شخص معين أمر غريب. يستطيع أن ينتمي إلى المذاهب الكبرى والمدارس الكبرى كالمذهب المالكي والشافعي والحنبلي والظاهري… لكن إلى شخص وبهذا الشكل هذا عجيب!

ثانيا هذا ليس سوى رأي من الآراء، يؤخذ منه ويرد. وهو ليس الإسلام الذي جاء به رسول الله من عند الله، بل مجرد فهم من فهومات الإسلام، وقد رد عليه علماء كثير، كما أنه قول مليء بالتناقضات، لأن الإقامة في بلد الغرب عند الإمام أبي حنيفة مثلا هي واجب، شريطة إقامة الواجبات الخمس. هذا أولا. وثانيا ينبغي تحديد ماهية الدولة الإسلامية؟ هل هو سماع الأذان؟ أم اللغة العربية؟ هل هذه هي الدولة الإسلامية؟؟ أم هو تطبيق للشريعة؟ أم هو العدل في تقسيم الثروات، ولغة الحوار، وإبداء الرأي؟ .. أما هذه الطائفة المدخلية فعليها أن تعلم أنه لا يجوز للداعية شرعا أن يفتي في قضايا هو بعيد عنها أصلا، وهذا ما ورد في القرآن الكريم: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”، وذكر الإمام القرطبي في التفسير، وذكره الأمام إبراهيم اللقاني في كتابه الفتاوى، عند قوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر” قال: (اسألوا أهل الذكر في بلدكم)، بمعنى أن المفتي لا يفتي في بلد آخر، لهذا لما جاء رجل من المغرب العربي إلى الإمام مالك في المدينة، واستفتاه في 46 مسالة، فأجابه عن 16 مسالة فقط، وعن 30 مسأله يقول له لا أدري.. وقد ذكر الإمام القرافي في كتابه الأحكام، أن مالكا لم يجب عن باقي القضايا لأنه لا يعلم عُرف المغرب، أي أنه احترم خصوصيات المنطقة التي جاء منها المغاربي.. هذا هو العالم الذي يحترم نفسه ويحترم علمه، بل يحترم دينه أيضا، بل لما طلب الخليفة المعتصم منه أن يجعل الموطأ قانونا في الأمصار، رفض الإمام مالك رحمه الله ذلك، لأنه يعلم أن هناك خصوصيات وعلوما انتقلت وأفهاما اختلفت وآراء تنوعت.. وهذا هو العالم الفاهم التقي. فكيف يستطيع الإنسان مهما كان علمه أن يكون اليوم ملما بجميع القضايا وخصوصياتها وبكل كتب الفقه!!؟ هذا لا يقبله عقل، بل العالم بات يفني عمره في دراسة فن واحد من الفنون الإسلامية الكثيرة.

  • والجزئية أصبحت تخصصا؟

أكيد؛ ولهذا في مرحلة زمنية أغلق باب الاجتهاد، الاجتهاد المطلق، وتفطن بعض علماء الأصول إلى تجزئة الاجتهاد، لأن الاجتهاد قديما كان يسع كل المجالات، في اللغة والتاريخ والفقه والأصول والحديث.. وفي القرن الخامس الهجري أغلق باب الاجتهاد المطلق أي في كل الأبواب، أما في جزئياته فلم يغلق، بل يبقى قائما في ميادين محددة، ولهذا انتشر الفقه وتفرع، كما ذكر النووي وابن حجر.. فالآن كيف يستطيع العالم أن يكون ملما بكل هذه الفنون والتفرعات وفي دول عديدة!!؟.. هي نوازل كما ذكر المالكية، مثلما لدينا اليوم في الغرب.. كل يوم نوازل؛ فكيف لهذا الرجل وهو في مكان ما في صومعة ما أن يكون ملما بكل هذه النوازل!؟، والله هذا عجب وجرأة كبيرة.. كيف لعالم أن يلقي بالفتاوى فيفتي لأمريكا ويفتي لفرنسا وهو في الجزائر، كيف هذا!؟ عجب والله.

 

الشيخ عمر درمان في سطور

الشيخ الأستاذ عمر درمان، أستاذ في الدراسات الإسلامية، (فقه مقارن، عقائد إسلامية، طرق صوفية، دراسات تاريخ التشريع الإسلامي)، وهو عضو في جمعية العلماء المسلمين، وعضو أيضا في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو بمركز الدراسات المقاصدية بوهران الذي يترأسه الشيخ الدكتور لخضر الأخضري، وأستاذ في كلية الدراسات الإسلامية بباريس الناحية العشرين، وأستاذ كذلك في معهد الطبري في ضواحي باريس (Corbeil-Essonnes)، وإمام وخطيب جمعة ومحاضر.

أكمل دراسته الثانوية في وهران، ثم الدراسات الاجتماعية لعام واحد، ثم سافر إلى فرنسا، وتوجه نحو الدراسات الإسلامية أو الدراسة التقليدية، ثم انتقل إلى معهد سانت دونيس Saint Denis الأكاديمي، وهو معهد معترف به دوليا حتى في الدول الإسلامية، وتخرج منه بشهادة ماستر في الدراسات الإسلامية بإشراف أستاذ من جامعة قسنطينة.

كما للأستاذ درمان برامج فتاوى في المساجد أو على المواقع الإلكترونية، تخص المسلمين في فرنسا، وبعض الفتاوى التي تخص مسلمي ألمانيا، إضافة إلى مراسلات من دول أوروبية، في معالجة بعض الإشكالات التي تطرح هناك.

 

مقالات متشابهة